الثاني: أن في الحديث أنها خرجت معتمرة معه في رمضان وكانت صائمة، وهذا كذب باتفاق أهل العلم؛ فإن النبي {لم يعتمر في رمضان قط، وإنما كانت عمره كلها في شوال، وإذا كان لم يعتمر في رمضان، ولم يكن في عمره عليه صوم بطل هذا الحديث.
الثالث: أن النبي {إنما سافر في رمضان في غزوة بدر، وغزوة الفتح، فأما غزوة بدر فلم يكن معه فيها أزواجه، ولا كانت عائشة، وأما غزوة الفتح فقد كان صام فيها في أول سفره ثم أفطر خلاف ما في هذا الحديث المفتعل.
فثبت بهذه السنة المتواترة أن صلاة السفر ركعتان، كما أن صلاة الحضر أربع؛ فإن عدد الركعات إنما أخذ من فعل النبي {الذي سنه لأمته، وبطل قول من يقول من أصحاب أحمد والشافعي أن الأصل أربع، وإنما الركعتان رخصة، وبنوا على هذا أن القاصر يحتاج إلى نية القصر في أول الصلاة كما قاله الشافعي وهو قول الخرقي والقاضي وغيرهما، بل الصواب ما قاله جمهور أهل العلم وهو اختيار أبي بكر وغيره أن القصر لا يحتاج إلى نية، بل دخول المسافر في صلاته كدخول الحاضر، بل لو نوى المسافر أن يصلي أربعاً لكره له ذلك، وكانت السنة أن يصلي ركعتين.
وقد تنازع أهل العلم في التربيع في السفر هل هو محرم، أو مكروه، أو ترك الأفضل، أو هو أفضل، على أربعة أقوال: فالأول قول أبي حنيفة ورواية عن مالك، والثاني رواية عن مالك وأحمد، والثالث رواية عن أحمد وأصح قولي الشافعي، والرابع قول للشافعي. والرابع خطأ قطعاً لا ريب فيه، والثالث ضعيف، وإنما المتوجه أن يكون التربيع إما محرم أو مكروه؛ لأن طائفة من الصحابة كانوا يربعون، وكان الآخرون لا ينكرونه عليهم إنكار من فعل المحرم، بل إنكار من فعل المكروه" أ. ه كلام شيخ الإسلام.
الرمل في الطواف:
الرمل: إسراع المشي مع تقارب الخطى دون العدو، وهو شبيه بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيته، والرمل في الأشواط الثلاثة الأول: من الطواف وهو سنة عند جمهور العلماء، ولو أخل بالرمل في الثلاثة الأول من السبعة لم يأت به في الأربعة الأواخر؛ لأن السنة في الأربعة الأخيرة المشي على العادة فلا يغيره، ولو لم يمكنه الرمل في الزحمة أشار في هيئة مشيه إلى صفة الرمل، ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة للزحمة، وأمكنه إذا تباعد عنها فالأولى أن يتباعد ويرمل؛ لأن فضيلة الرمل هيئة للعبادة في نفسها، والقرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة لا في نفسها، فكان تقديم ما تعلق بنفس العبادة أولى، ولا يشرع الرمل للنساء، ولو ترك الرجل الرمل حيث شرع له، فهو تارك سنة ولا شيء عليه.
وأصل سبب الرمل: ما رواه علماء السير من أن النبي {لما أهلَّ ذو القعدة سنة 7 هجرية أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرة الحديبية التي لم يتمكنوا من أدائها، وأن لا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم
ألفين سوى النساء والصبيان، وكان رسول الله {عند دخول مكة راكباً على ناقته القصواء، والمسلمون يلبون وهم متوشحو السيوف، محدقون برسول الله {؛ خشية أن يقع من قريش غدر، وشاع بين كفار مكة أن محمداً وأصحابه قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً، وخرج المشركون إلى جبل قعيقان (في شمال مكة) ليروا المسلمين، فأطلع الله تعالى نبيه {على ماقال المشركون، فأمر رسول الله {أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرسلوا الأشواط كلها إلا الإبقاء على قوتهم، كما أمرهم بالاضطباع وهو كشف المناكب اليمنى، ووضع طرفي الرداء على اليسرى، فلما رآهم المشركون قالوا: "هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد منا" (13) وقد هم عمر} بترك الرمل في الطواف بعدما زال سببه إلا أنه تراجع عن ذلك، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "سمعت عمر بن الخطاب يقول: فيما الرملان اليوم، والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله، مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله، ثم رمل" (14) وحاصله: أن عمر كان قد همّ بترك الرمل في الطواف؛ لأنه قد عرف سببه، وقد انقضى، فهم أن يتركه لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك؛ لاحتمال أن يكون له حكمة ما اطلع عليها، فرأى أن الاتباع أولى، وهذا ما أخذ به جمهور العلماء وهو القول بمشروعية الرمل على الإطلاق كما في حديث ابن عباس: أنهم رملوا في حجة الوداع مع رسول الله {(15) وقد نفى الله في ذلك الوقت الكفر وأهله عن مكة، والرمل في حجة الوداع ثابت أيضاً في حديث جابر الطويل عند مسلم الذي وصف فيها حجة رسول الله {، قال الخطابي: "وفيه دليل على أن النبي {قد يسن الشيء لمعنى فيزول وتبقى السنة على حالها" (16).
الهوامش:
1 - الوجيز في أصول الفقه- د. عبدالكريم زيدان، ط (2)، 1987 مكتبة القدس.
2 - المصدر السابق، وأصول الفقه- محمد أبو زهرة-، دار الفكر العربي، ص: (123).
3 - الرحيق المختوم-المباركفوري، ط دار الوفاء، ص: (89)، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبدالله النجدي، ص: (88).
4 - سيرة ابن هشام، ج1 ص: (355) وتفسير القرطبي ج10 ص: (211).
5 - سيرة ابن هشام ج1، ص: (356).
6 - نوادر الأصول في أحاديث الرسول أبوعبدالله الحكيم الترمذي- دار الجيل بيروت ج4، ص: (129).
7 - رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم: (686).
8 - فقه السنة- السيد سابق، ط دار الفتح العربي، ج1 ص: (337).
9 - المصدر السابق، البيهقي (363/ 1)، مجمع الزوائد (2/ 155) وقال: رواه أحمد ورجال ثقات.
10 - مجموع الفتاوى ج (22)، ص: (78 - 83) بتصرف.
11 - البخاري، باب يقصر إذا خرج من موضعه برقم: (1040)، ومسلم - كتاب صلاة المسافرين وقصرها برقم: (685).
12 - رواه النسائي برقم: (1456).
13 - الرحيق المختوم، المباركفوري، ط دار الوفاء، ص: (101)، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبدالله النجدي، ص: (221).
14 - رواه أحمد في مسنده برقم: (317)، ورواه أبو داود، انظر: عون المعبود ج (5) ص: (239) ط دار الكتب العلمية.
15 - عون المعبود ج (5)، ص: (239) دار الكتب العلمية.
16 - معالم السنن، الخطابي ج (2)، ص: (34).