وقصره على الأولى ظاهر مذهب الشيرازي كذلك. كالتنبيه من طريق الأولى بالأدنى على الأعلى، أو الأعلى على الأدنى كما في قوله تعالى ((ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك)).
فنبه بالدينار على القنطار؛ لأن من لا يؤدي الأمانة في دينار واحد لا يؤديها من باب أولى في قنطار وهو أكثر، ونبه بالقنطار على الدينار، لأن من يؤدي الأمانة في قنطار يؤديها من باب أولى في دينار وهو أقل (8).
ومثاله أيضاً دلالة قوله تعالى ((ولا تظلمون فتيلاً)) على نفي الظلم فيما هو أكبر من الفتيل، ويسمى هذا بفحوى الخطاب.
أما المساوي ـ لمن قال به ـ كالرازي وأتباعه، فيعرف أيضاً بلحن الخطاب، قال السمعاني في القواطع: " وأما لحن الخطاب فقد قيل ما أضمر فى أثناء اللفظ، وقيل لحن الخطاب ما يدل على مثله، والفحوى ما دل على ما هو أقوى منه " (9) فمثاله دلالة قوله تعالى ((إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً)) فهو مساوي لتحريم الإحراق لمال اليتيم.
فهاتان دلالتان متساويتان، إذ المنطوق يدل على المفهوم بالسوية.
ويمثل له الشافعية والحنفية أيضاً، بقوله تعالى ((أحل لكم ليلة الصيام الرفث)) على صحة صوم الجنب كما تقدم في إشارة النص.
قال الأسنوي: مسألة 3
الحكم اللازم عن المركب، إذا كان موافقاً للمنطوق في الإيجاب والسلب: كدلالة قوله تعالى ((فلا تقل لهما أف)) على تحريم الضرب، ودلالة قوله تعالى ((أحل لكم ليلة الصيام الرفث)) على صحة الصوم جنباً يكون حجةً ويسمى فحوى الخطاب، وتنبيه الخطاب، ومفهوم الموافقة.
ولا فرق فيه كما قاله في المحصول بين أن يكون ذلك المفهوم أولى بالحكم من المنطوق كآية التأفيف، أو مساوياً كآية حل الجماع للصائم خلافاً لابن الحاجب في اشتراط الأولوية " (10) أهـ.
قلت: اضطرب فيه ابن الحاجب كما نقل عن السبكي. قال في الإبهاج: " وهو ـ يعني قصر فحوى الخطاب على الأولى ـ مقتضى كلام الشيخ أبي اسحاق في شرح اللمع وغيره، وعليه جرى ابن الحاجب لكنه قال بعد ذلك في مفهوم المخالفة: شرطه ألا يظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت عنه فيكون موافقة فاضطرب كلامه " (11) أهـ.
وصحة التمثيل بآية حل الجماع في ليلة الصيام في كل من إشارة النص، ولحن الخطاب، لأن الثابت بإشارة النص كالثابت بدلالة النص عند من أخرج هذه الأخيرة عن القياس.
ومن الأصوليين كالشيرازي ـ كما تقدم ـ من يجعل المقتضى من لحن الخطاب، ومنهم من يجعل فحوى الخطاب ولحنه من دلالة المنطوق من طريق إطلاق الأخص (التأفيف، وأكل مال اليتيم) وإرادة الأعم (المنع من الإيذاء، والمنع من الإتلاف). والتداخل في هذا الباب خلاف لفظي، والحنفيون على أنها من دلالة المفهوم لا المنطوق (12).
ولم يختلف في دلالة مفهوم الموافقة خلافاً يعتد به، لكن اختلف في دلالة مفهوم الموافقة: هل هي من جهة اللفظ أو من جهة القياس؟
فذكر الحنفية أنها من باب دلالة اللفظ؛ لذلك تثبت الحنفية الكفارات والعقوبات بدلالة النص، وإن كانت لا تثبتها بالقياس.
قال الشاشي: " ثم دلالة النص بمنزلة النص حتى صح إثبات العقوبة بدلالة النص.
قال أصحابنا وجبت الكفارة بالوقاع بالنص، وبالأكل والشرب بدلالة النص " (13) أهـ.
وقال: " وأما دلالة النص فهي ما علم علة للحكم المنصوص عليه لغة لا اجتهاداً ولا استنباطاً مثاله في قوله تعالى ((فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما))، فالعالم بأوضاع اللغة يفهم بأول السماع أن تحريم التأفيف لدفع الأذى عنهما " (14) أهـ.
وقال السرخسي: " فكما أن في المسمى الخاص ثبوت الحكم باعتبار المعنى المعلوم بالنظم لغة ـ كما في عبارة النص ـ فكذلك في المسمى الخاص الذي هو غير منصوص عليه يثبت الحكم بذلك المعنى، ويسمى ذلك دلالة النص فمن حيث إن الحكم غير ثابت فيه بتناول صورة النص إياه لم يكن ثابتاً بعبارة النص، ومن حيث إنه ثابت بالمعنى المعلوم بالنص لغة كان دلالة النص، ولم يكن قياساً فالقياس معنى يستنبطه بالرأي مما ظهر له أثر في الشرع ليتعدى به الحكم إلى ما لا نص فيه لا استنباط باعتبار معنى النظم لغة " (15) أهـ.
¥