وحكي عن الشافعي القولان، وإن رجح أنها من دلالة القياس، قال الشيرازي في شرح اللمع: " وهو الصحيح؛ لأن الشافعي ـ رحمه الله ـ سماه القياس الجلي "أهـ.
فهو قياس باعتبار أن دلالته من جهة المعنى، وهو جلي باعتبار أنه لوضوحه يفهمه كل أحد.
وحكى الشيرازي أن ابن داود قال لأبي العباس بن سريج في قوله تعالى ((إن الله لا يظلم مثقال ذرة)) إن ذرتين فصاعداً، ذرة وذرة، فكل ذرة داخلة في الاسم ـ فيكون اللفظ دالاً على ما زاد.
فألزمه العباس نصف ذرة، وقال لا يسمى نصف ذرة ذرة، على أن المعنى يدل عليه " (15) أهـ.
وقال الجويني: " وقد صار معظم الأصوليين إلى أن هذا ليس معدوداً من أقسام الأقيسة، بل هو متلقى من مضمون اللفظ والمستفاد من تنبيه اللفظ وفحواه كالمستفاد من صيغته ومبناه، ومن سمى ذلك قياساً فمتعلقه أنه ليس مصرحاً به والأمر في ذلك قريب " (16) أهـ.
قلت: يشكل على هذا القرب أن المستفاد من جهة اللفظ يجوز تخصيصه كسائر الألفاظ.
قال في البحر المحيط: قال في كشف الأسرار: " وفائدة الخلاف في هذه المسألة أنه هل يعمل عمل النص؟ وأنه يجري في الحدود والكفارات؟ أهـ.
..... و هل يجوز النسخ به؟ إذا قلنا لفظية جاز وإلا فلا ". (17) أهـ.
والصحيح الأقرب أنها من دلالة اللفظ لا القياس. والله أعلم.
ومما سبق يعلم أن الشرط الأولي في مفهوم الموافقة أن يكون الوصف في محل السكوت أولى بالحكم منه في محل النطق أو مساوي له هذا شرط أولي.
وبتعبير أدق: شرطه أن لا يكون المعنى في المسكوت عنه أقل مناسبة من المعنى في المنطوق، فيدخل فيه الأولى والمساوي.
(2) مفهوم المخالفة
أما مفهوم المخالفة أو دليل الخطاب، فقضية القول به أن ذكر الوصف في محل النطق ليس له من فائدة سوى نفي حكمه عن محل السكوت.
ومن ثم فهو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت الذي هو عكس المنطوق.
ومن أجل من قال بدليل الخطاب الشافعي ـ رحمه الله ـ
(قال الشافعي): " فإذا قيل في سائمة الغنم هكذا فيشبه والله تعالى أعلم أن لا يكون في الغنم غير السائمة شيء ; لأن كلما قيل في شيء بصفة , والشيء يجمع صفتين يؤخذ من صفة كذا ففيه دليل على أن لا يؤخذ من غير تلك الصفة من صفتيه.
(قال الشافعي): بهذا قلنا لا يتبين أن يؤخذ من الغنم غير السائمة صدقة الغنم , وإذا كان هذا هكذا في الإبل , والبقر ; لأنها الماشية التي تجب فيها الصدقة دون ما سواها " (18) أهـ.
وقضية مفهوم المخالفة كما قلنا أن لا فائدة للوصف في محل النطق غير نفي الحكم عما عداه، لذلك فدلالة مفهوم المخالفة ـ عند من قال بها ـ تعارض بأدنى الاحتمالات كما سيأتي معنا.
قال الزركشي: " قال الشافعي: وتعارض الفوائد في المفهوم كتعارض الاحتمالات في المنطوق يكسبه نعت الإجمال، فكذلك تعارض الاحتمالات في المنطوق يكسبه نعت الإجمال " (19) أهـ.
وقد تقدم معنا أن الشرط الأولي في مفهوم الموافقة أن يكون الوصف في محل السكوت أولى بالحكم أو مساوي له في محل النطق.
وعكسه مفهوم المخالفة فالشرط الأولي في النظر لصلاحية النص لدليل الخطاب، أن لا يكون الوصف في محل السكوت أولى أو مساوي في محل النطق
يعني لئلا يكون مفهوم موافقة ويخرج جملة عن كونه مفهوم مخالفة.
ومن ثم فبالأولوية في محل السكوت يطعن جملة في مفهوم المخالفة.
ألم تر أن الأسنوي وغيره طعن في مفهوم المخالفة بأن يكون العاري عن الوصف أولى بالحكم (20).
وعلى سبيل الضرورة من ذلك أن الشرط الأولي لمفهوم المخالفة، أن تكون المناسبة في محل السكوت أدنى. ومن ثم فهو محل النطق أعلى.
وقضية هذا الشرط أن من أول فوائد ذكر الوصف في محل النطق دفع توهم أنه غير مراد، وأنه محتمل إخراجه بالتخصيص. فهذا الشرط لدفع هذا الفائدة الأولية من ذكر الوصف في محل النطق.
ذكر ابن قدامة ضمن أدلة المانعين من القول بدليل الخطاب فقال: " ومنها الاحتياط عن المذكور بالذكر كيلا يفضي اجتهاد ببعض الناس إلى إخراجه عن عموم اللفظ بالتخصيص، ومنها تأكيد الحكم في المسكوت لكون المعنى فيه أقوى كالتنبيه "
¥