وأجيب على ذلك: بأن الظاهر عنهم الاحتجاج بنفس الألفاظ والرجوع إلى صيغتها لا إلى قرينة، ثم أن صح هذا التأويل لكم لصح للقائل أن يقول: إن أسماء الأشخاص لا تفيد مسمياتها بأنفسها، وكذلك سائر ألفاظ اللغة مثل: أوجبت وألزمت وفرضت لا تدل على الوجوب إلا بقرينة.
ومن ما يدل على خطأ ذلك هو أن القرينة لا يجوز أن تكون ملازمة لكل أمر ورد من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه يفضي إلى أنهم لم يحصل أمر متجرد بحال، لأن الصحابة رضي الله عنهم لو لم يعلموا أن هذا أمر للوجوب لحصل منهم السؤال عن مقتضى ذلك الأمر في حال من الأحوال فلما لم ينقل عنه ذلك دل على أنهم عقلوا من أمره الوجوب.
د – إما من اللغة:
أن أهل اللغة عفوا من إطلاق الأمر الوجوب، لأن السيد لو أمر عبده مخالفة حسن عندهم لومه وتوبيخه وحسن العذر في عقوبته بمخالفة الأمر الواجب: ما يعاقب بتركه أو يذم بتركه.
واعترض عليه: إنما لزمت العقوبة لأن الشريعة أوجبت ذلك.
وأجيب على ذلك: إنما أوجبت طاعته إذا أتى السيد بما يقتضي الإيجاب، ولو أذن له في الفعل أو حرمه عليه لم يجب عليه، ولأن مخالفة الأمر معصية، قال تعالى: ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)).
المذهب الثاني: أن صيغة (أفعل) حقيقة في الندب، وإليه ذهب أبو علي الجبائي في أظهر قوليه، وبه قال أبو هاشم وعامة المعتزلة.
أدلة أصحاب هذا المذهب:
أ – من السنة:
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا)).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا، وهو دليل على الندبية.
ويرد على ذلك: بأن هذا دليل للقائلين بالوجوب لا للقائلين بالندب، لأن ما لا نستطيعه لا يجب علينا، وإنما يجب علينا ما نستطيعه، والمندوب لا حرج في تركه مع الاستطاعة.
ب – من العقل:
1 – قالوا: أن الأمر من الحكيم يقتضي حسن المأمور به، وحسنه لا يقتضي وجوبه، بدليل النوافل والمباحات فإنها حسنة وليست واجبة، فصار للوجوب صفة زائدة على حسن الشيء، فحملناه على اقل ما يقتضيه الأمر ولم نحمله على الزيادة.
وقد نوقش هذا: بأننا ما ادعينا أن حسنه يدل على الإيجاب لكن الأمر يقتضي الوجوب، والحسن تبع الإيجاب، لأن كل واجب حسن، فلو كان شيء حسن ليس بواجب لم ينقض ما قلناه، ثم يبطل هذا بالنهي فإنه يدل من الحكيم على كراهة المنهي عنه، وقد يكره كراهة تنزيه، ثم لم يحمل على كراهة التنزيه لأنها أقل ما يقتضيها النهي بل حملها على التحريم وهي صفة زائدة على زعمه، وعلى أن الأمر إن كان يقتضي حسن المأمور به فإنه يقتضي قبح ضده ولا يمكنه ترك ضده إلا بفعل المأمور به فاقتضى أن يكون واجباً.
2 – وقالوا: لا فرق بين قول القائل (افعل) وبين قوله (أريد أن تفعل) عند أهل اللغة بدليل أنهم يستعملون أحدهما في موضع الآخر ويقيمونه مقامه فلما لم يفد قوله (أريد) الوجوب، كذا قوله (افعل) لم يفد منها الوجوب.
وأجيب عن هذا الدليل: بأننا لا نسلم هذا لأن قوله (افعل) يفيد أن يفعل لا محالة، وقوله: (أريد أن تفعل) خبر، والخبر غير الأمر بالاتفاق، ثم ليس إقامة أحدهما مقام الآخر في حال مما يدل على اشتراكهم في المجاز كالحمار والأسد والجواد، لا يدل على اشتراك في الحقيقة.
وأما قوله (أريد) فهو صريح في الإخبار عن كونه مريداً، وليس بصريح في استدعاء الفعل، لهذا يدخل التصديق والتكذيب في قوله (أريد) ولا يدخل في قوله (أفعل).
المذهب الثالث: الوقف في تعيين مدلول الأمر حقيقة، وأصحاب هذا المذهب يسمون بالواقفية، وهؤلاء يرون أن الأمر ما دام يستعمل في معان كثيرة بعضها على الحقيقة اتفاقاً وبعضها على المجاز اتفاقاً فعند الإطلاق يكون محتملاً لكثير من المعاني، وبسبب هذا الاحتمال يتوقفون حتى يأتي البيان، وهؤلاء فريقان:
الفريق الأول: الوقف في تعيين المعنى المراد من الأمر عند الاستعمال، لا في تعيين المعنى الموضوع له عند الاستعمال، لأنه موضوع عند هؤلاء بالاشتراك للوجوب، والندب والإباحة والتهديد.
¥