إلا أن هذه القاعدة ليست مُطّردة إذ الكثرة ليست من أسباب الترجيح. لأدلة كثيرة تنخرم معها هذه القاعدة. ومن ذلك لو خالط الماء نجاسة وكانت نسبة الماء أكثر من نسبة النجاسة ولكنها أثّرت فيه فإن يحرم استعماله ويصير نجسا. وكذلك قالوا في الشراب إذا ولغ فيه الكلب وفي وقوع الفأرة في السمن، وصنع ثوب من قطن يغلب أو يكثر فيه الحرير فلال يحكم بالجواز لما عرض على هذه المسائل، كما لو قلنا أن رجلا كل كسبه حرام فالأكل منماله حرام وإن كان أغلب كسبه حرام فالأكل منه حرام وإن كان يكثر فيه الحلال ولكن مخلوط بالحرام فلا عبرة هنا بالأكثر بل القليل هنا يأخذ به، وغير ذلك من المسائل الفقهية الكثيرة المعروفة عندكم التي لا يمكن اعتماد هذه القاعدة فيها.
إلا أن المسألة تندرج تحت مبحث في أصول الفقه يسمى باب التعارض والترجيح، في أصول الفقه وإليكم مثال وشيء يسير من تقريب المعنى نفعنا الله بكم:
فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما قال له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟) فلم يأخذ بقوله -صلى الله عليه وسلم- حتى سأل القوم، وفيهم أبو بكر وعمر -رضي الله عنهم - فأخبروه أنه نسي -عليه الصلاة والسلام-.
ففي هذا دليل على الترجيح بالكثرة.
لكن إذا ورد نصان أحدهما يعارض الآخر فكيف نرجح أحد النصين؟
فالكثرة من وسائل الترجيح بين النصوص:
الترجيح بكثرة العدد والترجيح بكثرة الأدلة:
ـ الترجيح بكثرة العدد أو بكثرة الأدلة هذا الترجيح بهذه الصورة أو بهذه الوسيلة جائز عند الجمهور, واستدلوا بهذا الحديث السابق ذكره , وأيضاً الصحابة -رضي الله عنهم - يرجحون بكثرة العدد، فأبو بكر -رضي الله عنه- لما أخبره المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أطعم الجدة السدس في الميراث)، يعني جعل نصياً للجدة في الميراث، فلم يأخذ بقوله حتى شهد محمد بن مسلمة عند أبي بكر -رضي الله عنه- على هذا، وكذلك عمر لما لم يعمل بالخبر (من استأذن ثلاث مرات فلم يؤذن له فليرجع) فلما استأذنه بعض الصحابة ثلاث مرات ولم يجبه فرجع فقال لم رجعت فذكر له الحديث، فطلب منه أن يشهد أحد معه, فأيضاً هذا ترجيح بكثرة العدد، وهذا مذهب الجمهور أنه يجوز الترجيح بكثرة العدد؛ لأن الكثرة غالباً تصيب, فعمل الشيطان مع الواحد ومع الاثنين أبعد, فكلما كثر العدد كلما كان ذلك أقرب إلى الصحة لذلك إذا اختلفت الأمور على عبد في مسألة من المسائل ولم يستطع أن يرجح فقد يكون من باب الترجيح أن ينظر إلى قول الجمهور أو أن يأخذ بقول الجمهور فغالباً ما يكون قول الجمهور أقرب إلى الصواب من قول القلة, فهذا ترجيح للعدد.
الأحناف ذهبوا إلى أنه لا يجوز الترجيح بكثرة الأدلة ولا بالعدد، دليلهم في ذلك القياس على الشهادة، فإذا شهد في مسألة اثنان تحققت الشهادة بذلك، فإذا زاد عدد الشهود إلى ثلاث إلى أربع إلى خمس فهذا لا يحدث في الأمر شيئًا، فقالوا: كذلك كثرة الأدلة لا تؤثر ولا نرجح بها.
لكن استدلالهم هذا فيه نظر فالذي استدلوا به مختلف فيه هل كثرة الشهود ترجح أم لا؟ وهذا ليس معرض ذكره.
ولو سلمنا أن كثرة الشهود لا تؤثر فلا ترجيح بالكثرة ولا ترجيح بالعدد فلو سلمنا بذلك فهذا قياس مع الفارق لأنه لو شهد اثنان في مسألة ثم أتى آخر بثلاث لأتى الأول بأربع وهكذا، ولا تنتهي الخصومة، فالأمر هنا يختلف فهذا قطعاً للخصومة إذا شهد اثننان أخذ الحكم بشهادة الاثنين، أما في مسألة الأدلة فالأمر يختلف فهذا قياس مع الفارق, فنجد أن قول الجمهور بالترجيح بالكثرة أو الترجيح بالعدد هو الراجح في هذه المسألة.
أما فيما يخص أصحاب الحديث فمعروف عندهم أن كثرة الطرق لا تكون دائما من دواعي قبول الحديث بل قد تكون من دواعي رده.
لكن ضابط ذلك كما هو قول الجمهور دون الأحناف كما مر معنا أن الترجيح يقع بكثرة العدد أو بكثرة الأدلة.
ويستثتى من ذلك ما لا يعتد بكثرته كأن يختلط حرام بحلال كما مر معنا في الأمثلة الأولى فلا عبرة آنذاك بالأكثرية وإنما العبرة بورود النص كحديث: إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث.
وكما يقول أهل الأصول أن القاعدة لايمكن أن تكون قاعدة إلا إذا كانت هناك استثناءات.
وأرجو أن أكون قد جئت بفائدة في كلامي، والله المستعان.
¥