فشرع الميراث مرتبا على الوصية فدل أن الوصية جائزة وقوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} ندبنا سبحانه وتعالى إلى الإشهاد على حال الوصية فدل أنها مشروعة.
وأما السنة فما روي أن سعد بن أبي وقاص 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - كان مريضا فعاده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: يا رسول الله أوصي بجميع مالي؟ فقال: لا، فقال: بثلثي مالي؟ قال: لا قال: فبنصف مالي؟ قال: لا قال: فبثلث مالي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " الثلث والثلث كثير إنك إن ندع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " متفق عليه.
- جواز السلم: القياس يأبى جواز السلم باعتبار أن المعقود عليه معدوم عند العقد لكنه ترك بالنص وهو الرخصة الثابتة في السنة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رخص في السلم " وفي الحديث: " من أسلم فليسلم في كيل معلوم .. " الحديث
النوع الثاني: استحسان الإجماع:
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس لدليل الإجماع ومن أمثلة ذلك:
- الاستصناع: القياس يأبى جواز الاستصناع؛ لأنه بيع المعدوم كالسلم بل هو أبعد جوازا من السلم لأن المسلم فيه تحتمله الذمة لأنه دين حقيقة و المستصنع عين توجد في الثاني و الأعيان لا تحتملها الذمة فكان جواز هذا العقد أبعد عن القياس عن السلم
لكنه جاز؛ لأن الناس تعاملوه في سائر الأمصار من غير نكير فكان إجماعاً منهم على الجواز فيترك القياس.
النوع الثالث: استحسان الضرورة:
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس لدليل الضرورة ومن أمثلة ذلك:
- الحكم بطهارة الآبار والحياض بعدما نجست فإن القياس يأبى جوازه لأن ما يرد عليه النجاسة يتنجس بملاقاته.
لكن حكم بطهارتها للضرورة المحوجة إلى ذلك لعامة الناس فإن الحرج مدفوع بالنص.
- وكذلك جواز عقد الإجارة فإنه ثابت بخلاف القياس لحاجة الناس إلى ذلك فإن العقد على المنافع بعد وجودها لا يتحقق؛لأنها لا تبقى زمانين فلا بد من إقامة العين المنتفع بها مقام الإجارة في حكم جواز العقد لحاجة الناس إلى ذلك.
النوع الرابع: استحسان العرف:
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس لدليل العرف ومن أمثلة ذلك:
- استئجار الحمام بأجرة معينة دون تحديد كمية الماء ومدة المكث فالقياس يمنع من جواز ذلك لجهالة الكمية والمدة لكنهم استحسنوا ترك هذا القياس؛ لأن الجهالة المذكورة لا تفضي إلى المنازعة والخصومة لتعارف الناس على ذلك.
- وكذا في الشركة إذا سافر أحدهما بالمال و قد أذن له بالسفر أو قيل له اعمل برأيك أو عند إطلاق الشركة فالقياس أن لا ينفق شيئا من ذلك على نفسه أو طعامه؛ لأن الإنفاق من مال الغير لا يجوز إلا بإذنه نصا لكن ترك القياس لاستحسان العرف فله أن ينفق من جملة المال على نفسه في الاستئجار والطعام ونحوهما من رأس المال؛ لأن عادة التجار الإنفاق من مال الشركة و المعروف كالمشروط.
النوع الخامس: استحسان القياس الخفي:
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس (الضعيف سواء كان ظاهراً أو خفياً) لدليل القياس الخفي القوي الأثر ومن أمثلة ذلك:
يقول السرخسي في بيانه: (ثم كل واحد منهما _ أي القياس والاستحسان _ نوعان في الحاصل فأحد نوعي القياس: ما ضعف أثره وهو ظاهر جلي، والنوع الآخر منه ما ظهر فساده واستتر وجه صحته وأثره، وأحد نوعي الاستحسان: ما قوي أثره وإن كان خفياً، والثاني ما ظهر أثره وخفي وجه الفساد فيه، وإنما يكون الترجيح بقوة الأثر لا بالظهور ولا بالخفاء لما بينا أن العلة الموجبة للعمل بها شرعا ما تكون مؤثرة وضعيف الأثر يكون ساقطا في مقابلة قوي الأثر ظاهرا كان أو خفيا، وبيان ما يسقط اعتباره من القياس؛ لقوة الأثر الاستحسان الذي هو القياس المستحسن في سؤر سباع الطير فالقياس فيه النجاسة اعتبارا بسؤر سباع الوحش بعلة حرمة التناول وفي الاستحسان لا يكون نجسا؛ لأن السباع غير محرم الانتفاع بها فعرفنا أن عينها ليست بنجسة، وإنما كانت نجاسة سؤر سباع الوحش باعتبار حرمة الأكل؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها ولعابها يتجلب من لحمها وهذا لا يوجد في سباع الطير؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها ثم تبتلعه ومنقارها عظم جاف والعظم لا يكون نجسا من الميت فكيف يكون نجسا من الحي، وتأيد هذا بالعلة المنصوص عليها في الهرة فإن معنى البلوى يتحقق في سؤر سباع الطير لأنها تنقض من الهواء ولا يمكن صون الأواني عنها خصوصا في الصحارى وبهذا يتبين أن من ادعى أن القول بالاستحسان قول بتخصيص العلة فقد أخطأ؛ لأن بما ذكرنا تبين أن المعنى الموجب لنجاسة سؤر سباع الوحش الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها وقد انعدم ذلك في سباع الطير فانعدم الحكم لانعدام العلة.)
¥