العربي:" فالأفضل للمفتي أن يفتح له بابا يمشي به على طرائق فإنه إن سد عليه باب الشرع فتح هو إلى الحنث بابا يقتحمه وهذه سيرة العلماء المتقدمين وطريقة الأحبار الراسخين."
هذا فإذا كان المفتي لم تتوافر لديه أدوات الاجتهاد وشروطه فهل له أن يتخير من أقوال فقهاء المذاهب ما يكون أيسر للناس؟
لا نزاع في أن المفتي إذا استطاع أن يميز بين الأدلة ويختار من فقه المذاهب المنقولة نقلا صحيحا على أساس الاستدلال كان له أن يتخير في فتواه ما يراه مناسبا، ولكن عليه أن يلتزم فى هذا بأربعة قيود:
الأول ألا يختار قولا ضعف سنده.
الثانى أن يختار ما فيه صلاح أمور الناس والسير بهم في الطريق الوسط دون إفراط أو تفريط.
الثالث أن يكون حسن القصد فيما يختار مبتغيا به رضا اللّه سبحانه متقيا غضبه، وغير مبتغ إرضاء حاكم أو هوى مستفت.
الرابع ألا يفتى بقولين معا على التخيير مخافة أن يحدث قولا ثالثا لم يقل به أحد.
ومن مستلزمات التيسير: مراعاة أعراف البلدان وتغير العوائد حتى لا يفتى بخلافها، فيكون ذلك سببا في التنفير والتضييف على الناس فإن المفتي والقاضي كما قال الخوارزمي لابد لهما من معرفة أعراف الناس وإلا مضغهما الناس وإن الأحكام المبنية على العوائد تتغير بتغيرها، وليعلم المفتي كما قال ابن القيم أن الشريعة الإسلامية مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور أو عن الرحمة إلى ضدها أو عن المصلحة إلى المفسدة فليست من الشريعة في شيء وإن أدخلت فيها بالتأويل."
قال القرافي: ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفتيا أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟ وإذا كان اللفظ عرفيا فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا في عرفه أم لا؟ وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء وإن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواء، أن حكمهما ليس سواء".
ويقول أيضا: وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين".
وإلى جانب هذا لا بد من مراعاة تغير العوائد حتى داخل البلد الواحد فإن كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة ومن أمثله هذا ما نقل عن مالك أنه قال:" إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض قال القاضي إسماعيل هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها واليوم عادتها على خلاف ذلك فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد. ومثاله ماورد عن مالك أن الشريفة لاترضع مراعاة للعرف أما اليوم فقد تغيرت العادة وتمييز الشريفة من الدنيئة مما يعسر في الرتب كما قال ابن العربي.
قال اللقاني المالكي: وينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن يغلب إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق، مع أن اللغة لا تقتضيه فهذا هو معنى العادة في اللفظ وهو الحقيقة العرفية وهو المجاز الراجح في الأغلب وهو معنى قول الفقهاء، "أن العرف يقدم على اللغة عند التعارض». ومن أمثلة ما وقع في المدونة أن الرجل إذا قال لامرأته أنت علي حرام أو حلية أوبرية أو وهبتك لأهلك يلزمه الطلاق الثلاث في المدخول بها ولا تنفعه النية إن أراد أقل من الثلاث وهذا بناء على أن هذا اللفظ في عرف الاستعمال اشتهر في إزالة العصمة واشتهر في العدد الذي هو الثلاث. لكن مع مرور الزمن لا تجد الناس يستعملون هذه الصيغ المتقدمة في ذلك، بل تمضي الأعمار ولا يسمع أحد يقول لامرأته إذا أراد طلاقها أنت خلية أو وهبتك لأهلك ولا يسمع أحد يستعمل هذه الألفاظ في إزالة العصمة ولا في عدد الطلقات، فالعرف حينئذ في هذه الألفاظ منفي قطعا
¥