والجواب أن يقال أولا: إنّ تغير الفتوى بتغير الزمان ليست قضية كلية تصدق على كل جزئياتها، فلا يصح أن يقال كل فتوى قابلة للتغير بتغير الزمان والمكان، بل الصواب أن يقال بعض الفتاوى يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان، لكن يبقى النظر هنا في البحث عن الفتاوى أو الأحكام التي تتغير بتغير الزمان أو المكان.
فالأحكام الأصلية -مثلا- لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فلا يمكن أن يكون الوضوء واجبا للصلاة في وقت ثمَّ يزول هذا الوجوب في وقت آخر، لكن يمكن أن يقال لفلان الذي لا يستطيع الوضوء لعارض من العوارض صلِ حسب استطاعتك ولو لم تستطع الوضوء، فحكم الوضوء هنا لم يتغير، لكن الفتوى في حالة هذا الشخص بعينه ناسبت حاله فأبحنا له ترك الوضوء.
وكذلك، فإنّ الفتاوى أو الأحكام التي تتغير هي التي بنيت على ما هو متغير، من عرف أو عادة، أو علة متغيرة.
وكذلك الأمر هنا، فرق بين أن تصدر الفتوى قائلة، لا بأس بجواز الرمي قبل الزوال، حيث ورد في رواية عن الإمام أحمد والإمام أبي حنيفة، ولأنّ الضرورة من زحام وغيره داعية إلى ذلك.
وبين أن نقول لمن يأتي ويسأل وهو مضطر للرمي قبل الزوال، أو حتى ترك الرمي، ارم، أو نقول: من اضطر إلى الرمي قبل الزوال فله ذلك دفعًا لحالة الضرورة، وإلا فلا يجوز له ذلك، والواجب في حقه الرمي بعد الزوال.
إنَ الصيغة الأولى أشبه بقاعدة أو حكم عام، بينما الصيغة الأخرى تعالج حالة استثنائية، وليست هي الأصل.
رابعًا: لماذا يكون الدين، وأحكام الشريعة، أول ما نضحي به للخروج من مآزقنا، الذي صنعنا كثيرًا منها بأنفسنا، فإذا عرضت للإنسان مشكلة ما، أو وقع في مأزق، فإنّ أول ما يخطر بباله وبفكره به إسقاط شيء من أحكام الشريعة أو التنازل عنها أو التساهل فيها، فإذا فعل ذلك فكر في حلول أخرى، وهذه مصيبة كبيرة، وهي علامة على ضعف الإيمان في نفوس هؤلاء، وما تمسكهم ببعض أقوال العلماء إلا حجة يبررون بها موقفهم، حتى لا توجه إليهم أصابع الاتهام بخفة ديانتهم.
خامسًا: إنّ إصدار فتوى عامة بخصوص هذا الأمر يفتح الباب على مصراعيه في التساهل في كثير من المناسك التي تشبهه، فالوقوف بعرفة إلى غروب الشمس من أشبه المسائل به، فالرسول صلى الله عليه وسلم، لم ينفر، ولم ينفر أحد من صحابته -فيما بلغنا- إلا بعد الغروب، وتحيّن للغروب لينفر، وبه استدل الجمهور على وجوب الوقوف جزءا يسيرا من الليل، فلم لا يقال أيضا بجواز النفر من عرفة قبل الغروب؟ لا سيما وأن فريقا لا بأس به من العلماء قالوا بجوازه، سيما وأن دليله أقوى دلالة عليه، من دليل جواز الرمي قبل الزوال عليه.
بل قد يقول قائل إن الحاجة تدعوا إليه أكثر، فمن المشاهد أن كثيرا من الناس يندفعون بعد الغروب مباشرة اندفاعا، ويحدث من الزحام ما يعرفه كل أحد؟
هل ننتظر حوادث خطيرة حتى نبحث الأمر ونقول بجوازه؟
سادسًا: لا أظنّ أنّ المشكلة تكمن في قصر الوقت ما بين الزوال إلى غروب الشمس، وأن سبب الزحام وما يحصل فيه هو خوف الناس من غروب الشمس عليهم وهم في منى الأمر الذي يلزمهم بسببه المبيت إلى اليوم الثالث عشر، ثمَّ الرمي بعد الزوال، لأنهم لو رموا آخر جمرة قبل الغروب بدقائق ثمَّ غادروا منى إلى مكة لطواف الوداع أو للبقاء بها إلى اليوم التالي لم يجب عليهم المبيت بمنى ولا الرمي آخر يوم.
إذا أفتينا بجواز الرمي قبل الزوال، فما هو ابتداؤه؟ قبل الزوال بساعة، أو بعد طلوع الشمس، أو بعد طلوع الفجر، أو ما ذا؟ أي ذلك قلنا به لا نسلّم أنه سوف يخرجنا مما كنا نفر منه، وهو الزحام وما يحصل فيه، فلو حددنا للناس طلوع الشمس، لتجمهر الناس قبل طلوعها واندفعوا مع طلوعها للرمي، وكما قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رده على الشيخ عبدالله بن محمود (وذلك أن الناس إذا عملوا بغث رخصته، حشدوا جميعا أو أكثرهم أول النهار خشية حر الشمس أو قبل الفجر فحصل ما فر منه من الزحام) ().
خاتمة
حلول ومقترحات
¥