إن عدم اقتداركم – أيها الملاحدة - على تصور حقيقة الله لا يعني استحالة وجوده، ويكفي العقول أن تستدل على وجود الله بآثاره من نظام وإتقان وإحكام في هذا العالم، أما التطلع إلى إدراك حقيقة ذاته، فهذا ما لا سبيل للإنسان إليه، وفي هذا يقول أحد الفلاسفة الكبار، "روجر باكون ": " إنه لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن حقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلا عن أن يعرف كنه ذات الله ".
الشبهة الثانية قولهم: إن عقولنا لا يمكن أن تتصور حصول شيء من لا شيء، أي استحالة خلق المادة من العدم، فكيف يخلق الإله من العدم؟ وجوابنا عن هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن قولهم لا يمكننا أن نتصور حصول شيء من لا شيء، مبني على قولهم بقدم المادة وأزليتها، وهذا عين المحال، إذ كيف للمادة الصماء أن توجد نفسها!! وإذا كنتم ادعيتم عجز العقول عن تصور خلق شيء من لا شيء، فإن العقول أعجز عن تصور قدم المادة وأزليتها، ذلك أن المادة لا يعقل أن تخلو من صورة تقوم بها، والعقل السليم يقطع بأن كل صورة تقوم في المادة هي حادثة لأنها تزول وتتغير، ولا يخفى أن كل ما يطرأ عليه العدم يستحيل عليه القدم.
الوجه الثاني: أن عجز العقول عن تصور حصول شيء من لا شيء، لا يعني امتناعه في نفسه، فقد تعجز العقول عن تصور أمور كثيرة وهي ثابتة، كعجزها عن تصور حقيقة المادة رغم أنها ملامسة مشاهدة، فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يخضع بعقله أفعال الله سبحانه لقوانين البشر وقدراتهم.!!
إن منشأ هذه الشبهة – إنكار الخلق من العدم - هو قياس التمثيل، فعندما رأوا أن المخلوق لا يمكن أن يصنع شيئا إلا من شيء آخر، نفوا أن يكون شيء مصنوعا من لا شيء، وإبطال هذا القياس بإيضاح الفرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق لا يمكنه أن يصنع شيئا من لا شيء، أما الخالق فقدرته ليس لها حدود، فهو على كل شيء قدير، {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82).
الشبهة الثالثة: قولهم لو كان نظام الكائنات مخلوقا من إله حكيم، لكان موضوعا بقصد وحكمة، ولكانت علامات القصد والحكمة تامة في كل شيء، إلا أننا نرى في العالم أشياء لا تنطبق على القصد والحكمة.
والجواب على هذه الشبهة: أن جهلنا بحكمة مخلوق أو نظام ما في هذا الكون، ليس مبررا على الإطلاق أن ننكر خالقه سبحانه، ذلك أننا نشاهد من أسرار الله في مصنوعاته الحكم الباهرة ولم تزل تظهر لنا يوما بعد يوم حكمة بعد أخرى، مما كان خافيا علينا دهورا طويلة، فليس عدم إدراكنا للحكمة يعني انتفاءها وعدم وجودها، فقد تظهر لنا في يوم من الأيام، كما ظهر سواها.
وإذا تأملتم – أيها الملاحدة - قصور العقل البشري وعجزه عن إدراك كثير من الأمور المادية المشاهدة لنا، وقارنتم بين هذا العجز وبين قدرة الله العظمى وحكمته، لم تستغربوا اختفاء حكمة بعض الأشياء عن عقولنا، ورأيتم أن من الأولى قياس القليل النادر، مما لم تظهر حكمته، على الكثير المستفيض الذي لا يعد ولا يحصى من شواهد حكم الله الظاهرة في مخلوقاته، لا أن تتخذوا من هذا القليل النادر الذي خفيت حكمته دليلا على إنكار وجود الله الخالق.
الشبهة الرابعة، قولهم: إذا كان لكل موجود موجد، ولكل مخلوق خالق فمن خلق الله؟ والجواب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن إيراد هذا السؤال خطأ بين، ذلك أن قدرة الله جل جلاله تتعلق بالممكنات لا المستحيلات، وأن يخلق الله إلها من المستحيلات بلا شك، فلا تتعلق به القدرة، ذلك أن هذا الإله الذي سيخلقه الله سبحانه سيكون مخلوقا، وإذا كان مخلوقا فبالضرورة لن يكون خالقا وبالتالي لا يصلح أن يكون إلها.
الوجه الثاني: أننا لو تنزلنا وقلنا بصحة السؤال، لأفضى ذلك إلى التسلسل، وهو محال عقلا، بيانه أننا إذا أجبنا على سؤال من خلق الله؟ بالقول: إنه خالق آخر، فسوف يرد نفس السؤال على الخالق الآخر، فيقال من خلق الخالق الآخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، وفي المحصلة سنكون قد ارتكبنا محالين عقليين: الأول نفي الخالق، والثاني: القول بتسلسل علل لا نهاية لها.
الإيمان والعلم والفلسفة:
¥