وابن الجوزي يذكر أن الأسود بن غفار قال لرؤساء قومه قد ترون ما نحن فيه من العار والذل الذي ينبغي للكلاب أن تعافه وتمتعض منه فأطيعوني فإني أدعوكم إلى عز الدهر ونفي الذل قالوا وما ذاك قال إني صانع للملك وقومه طعاما فإذا جاءوا نهضنا إليهم بأسيافنا فأنفرد به فأقتله وليجهز كل رجل منكم على جليسه
فأجابوه إلى ذلك وأجمع رأيهم عليه فأعد طعاما وأمر قومه فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل وقال إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفهم ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم ثم اقتلوا الرؤساء فإنكم إذا قتلتم الرؤساء لم تكن السفلة شيئا ففعلوا ذلك.
فحميت جديس، واغتالوا عمليقاً على غرة، وإمامهم الأسود بن غفار يرتجز، ويقول:
يا لَيلَةً ما لَيلَةُ العَروسِ جاءَت تَمَشّى بِدَمٍ جَميسِ
يا طَسمُ ما لاقَيتِ مِن جَديسِ إِحدى لَياليكِ فَهَيسِ هَيسِ
فأَبادوا طسماً، فلم يفلت منهم إلا رجل يقال له، رياح أو رباح بن مرة، فإنه مضى على وجهه حتى أتى ملك اليمن وهو معسكر في جنوده بنجران، واختلفوا في اسمه:
• فقال أبو حنيفة الدينوري: إن اسمه ذو جيشان،
• وفي البدء والتاريخ أنه استنجد بملك اليمن وهو ذو غسان بن تبع الحميري، وقال في موضع آخر: لقب حسان هذا ذو جيشان، فلعل الصواب حسان بدلا من غسان وهو موافق لما في المنتظم والله أعلم.
• ونسبه ابن الجوزي فقال: هو تبع بن تبع بن أسعد أبي كرب بن ملكي كرب بن تبع وهو أبو تبع الأصغر بن حسان الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة وكسى الكعبة.
فمثل الأسود بين يديه، وقال: عبيدك ورعيتك قد اعتدى علينا جديس ثم قال:
أجبني إلى قوم دعونا لغدرهم إلى قتلهم فيها لك الأجر
فإنّك لن تسمع بيومٍ ولن ترى كيوم أباد الحيّ طسماً به المكر
أتيناهم في أزرنا ونعالنا علينا الملاء الحمر والحلل الخضر
بصرنا طعوماً بالعراء وطعمةً ينازع فينا الطّير والذّئب والنّمر
فقال الملك: كم بيننا وبينهم؟ قال: ثلاث. فقال من حضره: كذب، أيها الملك، بينك وبين القوم عشرون ليلة، فأمر جنوده بالمسير نحو اليمامة،
وكانت في جديس جارية زرقآء يقال لها اليمامة وبها سميت اليمامة وكانت كاهنة تبصر الراكب من مسيرة يوم ويقال من مسيرة ثلاث.
قال ابن الجوزي: فلما كان من اليمامة على ثلاث قال له رياح أبيت اللعن إن لي أختا متزوجة في جديس يقال لها اليمامة ليس على وجه الأرض أبصر منها إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث وأنا أخاف أن تنذر القوم بك فمر أصحابك فليقلع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه ويسير وهي في يده
فخاف الجيش أن تبصرهم اليمامة فتخبر القوم بهم فقطعوا الشجر وجعل كل رجل بين يديه شجرة يمشي خلفها يستتر بها عن اليمامة ونظرت اليمامة فرأت الشجر فنادت يآل جديس سارت إليكم الشجر أو أتتكم حمير قالوا وما ذاك قالت أرى رجلا في يده كتف يأكلها أو نعل يخصفها فكذبوها. فزعموا أنها أنشأت تقول:
خُذوا حِذاركم يا قومُ يَنفعكم فَليسَ ما قَد أرى بالأمرِ يحتقرُ
إنّي أَرى شَجراً مِن خلفها بشرٌ وَكيفَ تَجتمعُ الأشجار والبشرُ
ثوروا بِأَجمعكم في وجهِ أوّلهم فَإنّ ذلكَ مِنكم فَاِعلموا ظفرُ
ضمّوا طَوائفكم مِن قبل داهيةٍ مِنَ الأمورِ الَتي تُخشى وتنتظرُ
فغوّروا كلّ ماء قبل ثالثةٍ فَلَيس مِن بعده وردٌ ولا صدرُ
وَعاجِلوا القومَ عندَ الليلِ إِذ رَقدوا وَلا تَخافوا لَهم حَرباً وإن كثروا
فلما دهمهم حسان قال لها: ماذا رأيت؟ قالت: الشجر خلفها بشر! فأمر بقلع عينيها وصلبها على باب جو، وكانت المدينة قبل هذا تسمى جواً، فسماها تبع اليمامة وقال:
وسمّيت جوّاً باليمامة بعدما تركت عيوناً باليمامة همّلا
نزعت بها عيني فتاةٍ بصيرةٍ رعاماً ولم أحفل بذلك محفلا
تركت جديساً كالحصيد مطرّحاً وسقت نساء القوم سوقاً معجّلا
أدنت جديساً دين طسمٍ بفعلها ولم أك لولا فعلها ذاك أفعلا
وقلت خذيها يا جديس بأختها! وأنت لعمري كنت في الظّلم أوّلا!
فلا تدع جوّاً ما بقيت بإسمها ولكنّها تدعى اليمامة مقبلا
فصبحتهم الخيل فقتلتهم وأقصتهم وانقضى أمر جديس وطسم.
قال ابن الجوزي: وبنظر هذه المرأة يضرب المثل وكانت زرقاء اليمامة قد نظرت إلى سرب من حمام طائر فإذا فيه ست وستون حمامة وعندها حمامه واحدة فقالت
ليت الحمام ليه إلى حمامتيه
ونصفه قديه تم الحمام ميه
وزعموا أنها قالت:
¥