وتحقيقاً لعلم العلامات، راح يفصل الإشارات التي تنقل المعاني المختلفة، ويشرح كيفيتها، وتطورها مستجيبة للدواعي الحضارية. فالإشارة تكون باليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب، أما إذا تباعد الشخصان فبالثوب وبالسيف. وتختلف دلالات إشارة السيف، فقد يتهدد رافع السيف والسَّوط؛ فيكون زاجراً ومانعاً رادعاً، ويكون وعيداً وتحذيراً. ويحدد الجاحظ المواقف الاجتماعية التي تستدعي التعبير بها، على نحو قوله: وفي الإشارة بالطَّرْف والحاجب وغير ذلك من الجوارح، مرفق كبير ومعونة حاضرة، في أمور يسترها بعض الناس من بعض ويُخْفونها من الجليس وغير الجليس. ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص ([ xiv])..
والعَقْد الحساب، وهو دون اللفظ والخط، قال البغدادي مفسراً إياه: ((والعَقْد نوع من الحساب يكون بأصابع اليدين، يقال له حساب اليد. وقد ورد منه في الحديث: وعقد عقد التسعين .. )) ([ xv]). وهو يشتمل على معانٍ كثيرة ومنافع جليلة.
أما النَّصْبة فهي الحال الناطقة بغير لفظ، والمشيرة بغير يد. من أمثلتها في نطق الجماد بدلالة الحال، قول الفضل بن عيسى بن أبان: ((سَلِ الأرضَ فَقُلْ: مَنْ شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبكَ حواراً، أجابتك اعتباراً)) ([ xvi]).
وبجملة الإشارات والعلامات يتمكن الإنسان من الإفصاح في غير مقام. وعند الجهل بإحداها، يخرج السلوك اللغوي إلى البوار: ((ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن الله عزّ وجلّ الحساب في الآخرة، وفي عدم اللفظ وفساد الخط والجهل بالعَقْد فساد جُلّ النِّعَم، وفقدان جمهور المنافع، واختلال كل ما جعله الله عزّ وجلّ لنا قواماً، ومصلحة ونظاماً)) ([ xvii]).
وتخطى الجاحظ مبادئ العلامات إلى غير كتاب من كتبه، كالحيوان ([ xviii]) الذي أجمل فيه ما فصله في البيان ..
وعلى هَدْي الجاحظ، جاءت مباحث ابن قتيبة (ت276/ 889م) في العلامات. أورد في كتاب ((العِلْم والبيان)) الوسائل غير اللفظية التي تمكن من تبليغ المقاصد، على نحو: الاستدلال بالعين والإشارة والنصبة. من أمثلة الاستدلال بالعين، معرفة الحب والبغض من خلال حركة العين، حجته قول الأعرابي: [من البسيط]
إِنْ كَاتَمُونَا القِلَى نَمَّتْ عُيُونُهُم
والعَيْنُ تُظْهِرُ مَا فِي القَلْبِ أو تَصِفُ ([ xix])
ثم أتى بشاهد الجاحظ عند الاستلال على النصبة، أو الحال الناطقة بالهيئة والوضعية.
وارتقت السيمياء إلى درجة أصبح لكل موقف إشاراته التي تخصه، وهي تقوم مقام ألفاظه. فمواقف العشق والحب –على سبيل المثال لا الحصر- لها علاماتها، التي كثيراً ما لهج بها الشعراء والأدباء، وتناولها الناس .. فمن علاماتها التي سجلها ابن عبد ربه (ت328هـ/940م): [من الطويل]
ولِلحُبِّ آياتٌ إِذَا هِيَ صَرَّحَتْ
َبَدَّتْ عَلاَمَاتٌ لَهَا غُرَرٌ صُفْرٌ
فَبَاطِنُهُ سُقْمٌ وظَاهِرُهُ جَوَى
وَأَوَّلُهُ ذِكْرُ وآخِرُهُ فِكْرُ ([ xx])
وجدّوا أكثر لاستخراج علامات، يعرفون بواسطتها العاشق الولهان من غيره، فأضافوا بسعيهم الحثيث أمارات أخرى، منها لَجْلَجة اللسان، والاعتلال بالحَصْر والعِي، على حد قول أحمد بن أبي طاهر: [من الطويل]
عِتَاباً كَأَيَّامِ الحَيَاةِ أعدُّهُ
لأَلْقَى بهِ بَدْرَ السَّمَاءِ إِذَا حَضَرْ
فَإِذَا أَخَذَتْ عَيْنِي مَحَاسِنَ وَجْهِهِ
د ُهِشْتُ لِمَا أَلْقَى فَيَمْلِكُنِي الحَصَرْ ([ xxi])
واستدلوا على العاشق بعلامة أخرى تتمثل في دموع العين. وقد ارتقت إشارة الدموع إلى درجة باتت معه سمة من سمات العاشق، جسّدها الشعار المعروف ((لسان كتوم ودمع نموم)). ومن استعماله في الشعر ما أنشده الجُنَيْد: [من المتقارب]
لِسَانِي كَتُومٌ لأَسْرَارِكُم
ودَمْعِي نَمُومٌ لِسِرّي مُذِيعْ
وَلَوْلا دُمُوعِي كَتَمْتُ الهَوَى
وَلَوْلاَ الهَوَى لمْ تَكُنْ لِيْ دُمُوعْ ([ xxii])
¥