وهذا القول فيه إجمال ٌ أيضا ً من حيث اشتراك البدع والمعاصي في وصف المضاهاة.
فالبدع من جنس المعاصي والمخالفات بلا شك، ولكن قصد القربة يميز بينهما، وقصد القربة نوع من المضاهاة، فأيما معصية عملها صاحبها قاصداً بها القربة فإنها تكون بدعة
9. قوله تحت عنوان: ما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ( ... من هذه المحدثات ما أقره – صلى الله عليه وسلم –، بل استحسنه، ومثل هذه لا تعتبر بدعا ً على أي اتجاه من الاتجاهات الثلاثة في تعريف البدعة، بل هي قسم من أقسام السنة كما تقدم، وهو سنة الإقرار، ومن هذه المحدثات ما أنكره – صلى الله عليه وسلم – ورده على فاعليه، ومثل هذه المحدثات تعتبر بدعا ً على أساس كل الاتجاهات التي ذكرناها في تعريف البدعة).
وهذا الكلام في جملته صحيح، لولا أنه يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن بعض البدع، وشرعها، وأنكر بعض البدع وردها، وهذا المعنى يتوافق مع مراد المؤلف حين قسم البدع إلى حسن وقبيح.
ولو قبل هذا الكلام على إطلاقه، لقيل في كل الأمور الشرعية بمثل هذا القول، لأنها جديدة، وهل يقول مسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بما أحدثه بلال من إلزام المداومة على صلاة ركعتين بعد الوضوء استحسن هذه البدعة وأقرها؟!!.
اللهم إلا إن كان المراد بالبدعة والمحدثة هنا المعنى اللغوي فلا بأس ... أما قوله في المحدثات التي أنكرها النبي صلى الله عليه وسلم ورها بأنها تعتبر بدعا ً فليس على إطلاقه؛ لأن بعض الذي رده النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر من المعاصي،كرده على الذي عير الآخر بأمه السوداء، وبعض الذي رده يعتبر من البدع، كرده على الثلاثة الذين تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم،ورده على من أراد الاختصاء، ونحو ذلك، و المميز بين الفعلين إرادة القربة بالعمل المحدث.
10. جعل الضرر في المصنوعات الحديثة وصفا ً يصح به إطلاق الابتداع على هذه المصنوعات، أي اعتبارها بدعا ً شرعية.
ولم يقل أحد من العلماء بأن كل ما فيه ضرر أو أدى إلى مفسدة يعتبر بدعة، لأن مسألة الضرر في المصنوعات الحديثة مسألة نسبية، وحتى الذي يتمحض فيه الإضرار لا يعتبر بدعة، إلا إذا عمله الشخص متقربا ً به إلى الله، أما إذا لم يكن هذا مقصده فإنه يكون قد ارتكب معصية لا بدعة.
11. قوله ( ... من العادات ما قيده الشارع بنظام خاص أو أسلوب معين، فالخروج عن ذلك بدعة – على ما اخترناه في تحديد مفهوم البدعة – لما في ذلك من إحداث ما خالف الشرع، كالأكل بالشمال بدلا ً من اليمين، ولبس الحرير والذهب للرجال ونحو ذلك).
وهذا رأي مجانب للصواب؛ لأن المخالفة الشرعية لا تسمى بدعة إلا إذا اقترن بها قصد القربة، أو كانت فعلا ً عباديا ً محضا ً لا يتصور فيه إلا قصد القربة.
ولو طرد هذا المفهوم الذي ذكره لاعتبرنا جميع المعاصي المنتشرة بين الناس بدعا ً، وهذا غير صحيح.
12. بعد أن ذكر قصة ابن مسعود مع الذين اجتمعوا على الذكر، وإنكاره عليهم، واعتباره الذكر الجماعي بدعة، جعل إنكار ابن مسعود وتبديعه لهؤلاء متوجها ً إلى كونهم من الخوارج، لا لأنهم ابتدعوا هذه الطريقة المحدثة في الذكر ...
وهذا الاستنتاج مناف ٍ للصواب، ومخالف لنص الخبر الوارد عند ابن وضاح، ومنه:
( ... ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحا ً معلوماً، ويهللون ويكبرون، قال: فلبس برنسا ً ثم انطلق فجلس إليهم، فلما عرف ما يقولون رفع البرنس عن رأسه، ثم قال: أنا أبو عبد الرحمن، ثم قال: لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو لقد جئتم ببدعة ظلماً ... ثم قال رجل من بني تميم، والله ما فضلنا أصحاب محمد ٍ علما ً ولا جئنا ببدعة ٍ ظلما ً ولكنا قوم نذكر ربنا، فقال: بلى، والذي نفس ابن مسعود بيده لقد فضلتم أصحاب محمد علما ً أو جئتم ببدعةٍ ظلما ً ... ) الخبر.
وفي البدع لابن وضاح بسنده أن ابن مسعود مر برجل يقص في المسجد على أصحابه هو يقول: سبحوا عشرا ً، وهللوا عشرا ً، فقال عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو أضل، بل هذه بل هذه، يعني أضل).
فأين في هذين الأثرين ذكر الخوارج؟ وصرف تبديع ابن مسعود لهؤلاء عن الذكر الجماعي تعسف يخالف ظاهر الأثر.
¥