تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما يحسن الإشارة إليه هنا: أن اعتبار مثل الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ذلك الخلاف لفظيًّا يعني إقراره على الحكم، أي إنه إقرار بعدم مخالفة هذا القول لعقيدة السلف من جهة أحكام الآخرة، فالتصديق والإقرار مع ترك العمل غير موجب للنجاة من النار؛ وهذا قدر متفق عليه، إلا إن ثَمَّة تتمة لهذا القول لابد أن يتفق عليها كذلك؛ ألا وهي: أن التصديق المتضمن عمل القلب مع الإقرار باللسان موجب للنجاة من الخلود في النار، فهذا قول أبي حنيفة -رحمه الله- في باب الأحكام، وهذا لازم اعتبار ابن تيمية -رحمه الله- خلافه في الأسماء لا في الأحكام بغير تفصيل. والله أعلم.

والمقصود أنَّ نقول السلف لابد وأن تنظر من خلال تصور حقيقي للإرجاء على ما ذكرنا، وأن تنزل على باعث كلامهم؛ من تفنيد القول بوحدة الإيمان وعدم تجزأه، وعدم لزوم العمل في النجاة من النار. أما أن يحمل كلام السلف على لزوم العمل لدخول الجنة فتلك مسألة أخرى غير ما سيق الكلام لأجله، فدخول الجنة لا يعني النجاة من النار من أول وهلة، كما أن دخول النار لا يعني عدم دخول الجنة إلى الأبد، بل من كان معه أصل الإيمان خرج من النار ودخل الجنة يومًا من الدهر أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه.

ومن ذلك ما ذكره بعض الباحثين عن الإمام الشافعي في مسألة الإيمان فقال: "الشافعي -رحمه الله- وإن لم يذهب لكفر تارك الصلاة لعدم ثبوت الإجماع عنده في المسألة؛ فهو من كبار أئمة السنة العارفين بمذاهب السلف؛ ولذا عصمه الله من مخالفتهم في كفر تارك العمل؛ حيث قال -رحمه الله- كما في "شرح أصول الاعتقاد للالكائي 5/ 886": وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر" "كتاب أقوال ذوي العرفان في أن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان للدكتور عصام بن عبد الله السناني".

فهذا الكلام يبين لنا كيف يُنسب التناقض إلى فهم السلف بسبب تفسير نقولهم بحسب رؤية مسبقة، والإشكال أن هذه الرؤية هي عين المستدل عليه بهذه النقول. فإذا كان الشافعي -رحمه الله- يذهب إلى عدم كفر تارك الصلاة ولا غيرها من أعمال الجوارح، فكيف يكفِّر تاركها في الآخرة ويوجب خلوده في النار، فالذي أورث ذلك التناقض حملُ كلامه على رؤية مسبقة، وهي تفسير قوله: "لا يجزئ"، بمعنى: "لا ينجيه من الخلود في النار"، مع أن كلامه ينتظم ويتلاءم إذا ما حملناه على معنى: "لا ينجيه من دخول النار"، وهو التفسير الأليق بكلامه ومذهبه في كفر تارك الصلاة، كما أنه المناسب لما تقدم من توجه كلام السلف في ذلك الوقت إلى دحض بدعة القول بأن تارك العمل يجزيه إقراره في النجاة من النار؛ لا الخلود فيها.

وقد تقرر أن لكل مقال بساطَ حال، لا يتضح الكلام إلا بحمله على ذلك البساط، فانظر مثلاً إلى تكفير الإمام أحمد -رحمه الله- من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، مع قول كثير من الأئمة من بعد بالتفصيل -وهو الصواب-. فالنظر إلى مقالة الإمام أحمد مجردة عن بساط حالها يورث الإشكال؛ ولا إشكال عند معرفة بيئة مقالته وتوجيه كلامه لسد باب فتنة عظيمة لم يكد ينغلق من القول بخلق القرآن؛ فلما استقر الأمر لاعتقاد السنة ورُمَّت مقالات البدع والأهواء؛ تكلم العلماء بما كان السكوت عنه سدًا لذريعة تلك المقالات، وفصَّل الناس بعد الإجمال؛ وثوقًا ببساط الحال. فالحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على خير الورى.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير