تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[بعض أسباب الفتاوى الشاذة]

ـ[عصام البشير]ــــــــ[26 - 06 - 10, 11:00 م]ـ

[بعض أسباب الفتاوى الشاذة]

لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في خطورة منصب الفتوى، وعظيم شأنه عند الله وعند الناس. وكيف لا يكون كذلك، وهو مقام التوقيع عن رب العالمين؟ و (إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟)) (1)

والمفتي مخبر عن الله عز وجل، ونائب عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في تبليغ الأحكام الشرعية للأمة. وقد اجتمع فيه مقامان عظيمان في الدين، هما: مقام الاجتهاد، ومقام التعليم والإرشاد. فالأول لتحصيل الحكم الشرعي في النازلة المعروضة، والثاني لبث هذا الحكم، وتبليغه إلى خصوص السائل، أو عموم الأمة.

وقد ذكر بعض أهل العلم أن بين المفتي والقاضي تفاوتا في عظم خطورة المنصب، فالقاضي أعظم خطرا من جهة كون حكمه تستباح به الفروج والدماء والأموال، على جهة الإلزام، بخلاف حكم المفتي فلا إلزام فيه. لكن المفتي أعظم خطرا من جهة حكمه عاما، لا يختص بفرد أو جماعة معينة، بخلاف حكم القاضي فهو جزئي مخصوص.

ولما كان هذا المنصب بهذه المرتبة السنية، كان تشوف عامة المسلمين – قديما وحديثا - إلى أهله عظيما، وحاجتهم إلى ما يصدر عنهم من الفتاوى والأبحاث جليلة. فحاجة المسلم إلى الفتوى التي تبين له حكم الله، وترشده إلى الحق الذي ينبغي سلوك طريقه، وإلى الباطل الذي ينبغي تنكب سبيله، كحاجته إلى الشراب والغذاء اللذَين بهما قوام بدنه، بل كحاجته إلى الهواء الذي به استدامة حياته. بل لو قيل: إن الحاجة إلى الفتوى أعظم من الحاجة إلى هذا كله، لم يكن بعيدا عن الصواب الحقيق بالقبول، إذ بالفتوى تقوم الأديان، وبها يتقرب المكلف إلى ربه، بفعل ما يحبه، وترك ما يبغضه، فيسلك إلى ما فيه سعادة الدارين.

والمسلمون في هذا العصر لا يخرجون عن هذا الأصل، فهم – في أغلب أحواهم - متشوفون إلى أهل الفتوى، حريصون على معرفة أحكام الله عز وجل. وإذا كان منصب القضاء الشرعي مغيبا في أكثر بلاد الإسلام، فإن منصب الفتوى موجود، وكثير من الذين يعتلونه هم من أهله القائمين بحقه أحسن قيام، وإن كان منصبا مفتوحا أيضا لبعض من ليس بينه وبين العلم الشرعي كبير اتصال.

...

وقد انشغل الناس في السنوات الأخيرة، بطائفة من الفتاوى الشاذة العجيبة، التي يصدرها - بين الفينة والأخرى - بعض المتصدرين قبل تمام التأهل العلمي، ما بين داعية، وواعظ،) (2) (وطالب علم مبتدئ، ومفكر، وكاتب في الصحف السيارة، وأمثال هؤلاء ممن لا ينبغي أن تؤخذ الفتوى العلمية من أحدهم، في نقير ولا قطمير.

وهذه الفتاوى الشاذة – إذا قورنت بمجموع ما يصدر من الفتاوى المنضبطة - قليلة جدا في عددها، ولكن الضرر بها كبير جدا. وما ذلك إلا بسبب ما يحدث إثر صدورها من أخذ ورد في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، حتى يصبح النقاش فيها حديث المجالس، تلوكه الألسنة والأقلام، بعلم حينا، وبجهل أحيانا!

وقد صار لخروج هذه الفتاوى، وعرضها على الرأي العام، عادة مألوفة لا تكاد تتخلف. تبدأ بفتوى مغمورة لبعض المنسوبين إلى العلم أو الفكر، في موقع على الشبكة أو صحيفة قليلة الانتشار. ثم يتكفل بعض أهل الإعلام بنشر الفتوى على وسيلة إعلامية مشتهرة، من صحيفة ذائعة الصيت، أو قناة فضائية يتتبعها ملايين الناس. ويتبرع هذا الصحافي بأن يزيد للفتوى المنشورة سباقا من الإثارة، ولحاقا من التشويق، وقد يزيد – ضغثا على إبالة – فيعقد للفتوى لقاء فكريا، يستدعي له بعض المعارضين، وبعض الموافقين. واسمع حينئذ ما شئت من عصارات الفكر، وأعاجيب التأصيل، ونوادر البراهين؛ في قالب حواري يزري بما يدور في أعرق المجالس النيابية العالمية!

ثم تنتقل الفتوى بعد ذلك إلى الشبكة العنكبوتية، وتأخذ حقها من التجاذب والتناطح. وقد تعرض على كبار أهل العلم، فيتكفل بعضهم بما تيسر من البيان العلمي، وفق الميثاق الذي أخذه الله تعالى على العلماء الربانيين؛ وإن كانت أكثر هذه الردود العلمية، لا تتداول إلا في صفوف طلبة العلم، ولا تكاد تجد طريقها إلى وسائل الإعلام.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير