قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والفقه لا يكون إلاّ بفهم الأدلة الشرعية بأدلتها السمعية الثبوتية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباطاً) [الاستقامة 1/ 61].
والفقه كما سبق هو الفهم، لكنّ الفَهم درجات، فمن النّاس من يفهم العبارة الواضحة والغامضة، ومنهم منهم يفهم الواضحة دون الغامضة.
والّذين يفهمون العبارة الغامضة يختلفون أيضاً: فمنهم من يفهمها في لحظة، ومنهم من يحتاج إلى نظر وتأمّل يستغرق منه وقتاً أطول.
وأولئك الّذين يفهمون العبارة الغامضة يختلفون أيضاً: فمنهم من يدرك معناها ولوازمها وما تتضمّنه، ومنهم من لا يتعدّى فهمه معرفة معناها فقط.
قال الشّوكاني: (القرايح مختلفة والفطن متفاوتة والأفهام متباينة، فمن النّاس من يرتفع بالقليل إلى رتبة عليّة ومن النّاس من لا يرتفع من حضيض التّقصير بالكثير وهذا معلوم بالوجدان) [البدر الطّالع 2/ 86].
3. جادل:
قال بعض العلماء: (كلّ مجادل عالم وليس كلّ عالم مجادل).
قال ابن عبدالبر: (يعني أنّه ليس كلّ عالم يتاتّى له الحجّة ويحضره الجواب ويسرع إليه الفهم بمقطع الحجّة، ومن كانت هذه خصاله فهو أرفع العلماء وأنفعهم مجالسة ومذاكرة والله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم). [جامع بيان العلم ص433]
وقال أيضاً: (وأمّا الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتّناظر لأنّه علم يحتاج فيه إلى ردّ الفروع إلى الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك) [جامع بيان العلم ص411].
وقال أيضاً: (وأمّا الفقه فلا يوصل إليه ولا يُنال أبداً دون تناظر فيه وتفهّم له) [جامع بيان العلم ص420]
وقال المزني يوماً لبعض مخالفيه في الفقه: من أين قلتم كذا وكذا، ولم قلتم كذا وكذا؟ فقال له الرّجل: قد علمت يا أبا إبراهيم أنّا لسنا لِمِيّة، فقال المزني: إن لم تكونوا لميّة فأنتم إذن في عميّة. [جامع بيان العلم ص433]
وقال المزني: (لا تعدو المناظرة إحدى ثلاث: إمّا تثبيت لما في يديه، أو انتقال من خطإ كان عليه، أو ارتياب فلا يقدم من الدّين على شك.
قال: وحقّ المناظرة أن يُراد بها الله عزّوجل، وأن يُقبل منها ما يتبيّن.
وقالوا: لا تصحّ المناظرة ويظهر الحقّ بين المتناظرين حتّى يكونا متقاربين أو متساويين في مرتبة واحدة من الدّين والفهم والعقل والإنصاف وإلاّ فهو مراء ومكابرة.
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: رأيت ملاحاة الرّجال تلقيحاً لألبابهم، وما رأيت أحداً لاحى الرّجال إلاّ أخذ بجوامع الكلم، قال يحيى بن مزين: يريد بالملاحاة هنا المخاوضة والمراجعة على وجه التّعليم والمدارسة والتّفهّم) [انظر جامع بيان العلم ص436]
والاختلاف في الرّأي إذا كان لله لا يفسد القلوب، فهذا أبو العبّاس بن سريج فقيه الشّافعيّة بلا مدافعة، كانت له مناظرات كثيرة مشهورة مع محمّد بن داود الظّاهري، فلمّا مات محمّد جلس للتّعزية كأنّه من أهله وقال: ما آسى إلاّ على تراب أكل لسان محمّد بن داود. [طبقات الشّافعيّة 3 /]
4. كن جريئاً:
قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: (أدركت مشايخ بالمدينة أبناء سبعين وثمانين لا يُؤخذ عنهم، ويقدم ابن شهاب وهو دونهم في السّن فتزدحم عليه النّاس. [الكفاية ص159]
وقال الزّهري: كان مجلس عمر مغتصّاً من القرّاء شباباً وكهولاً فربّما استشارهم ويقول: لا يمنع أحدكم حداثة سنّه أن يشير برأيه فإنّ العلم ليس على حداثة السّنّ وقدمه ولكنّ الله يضعه حيث يشاء. [جامع بيان العلم ص251]
وعن ربيعة بن أبي عبدالرحمن قال: (لا ينبغي لأحد يعلم أنّ عنده شيئاً من العلم أن يضيّع نفسه) [الجامع للخطيب 1/ 513].
ولهذا وكان ابن شهاب يقول لطلاّبه: لاتحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإنّ عمر بن الخطّاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدّة عقولهم. [جامع بيان العلم ص139 ـ 140]
¥