تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

يفهم الدليل، وكيف يكتشف صدق العالم وكذبه، وكيف يميز بين الصادقين المخلصين والكاذبين الزائفين. وبذلك تتخلص الأمة من المنافقين وتتمسك بالمؤمنين ويروج سوق العلم والاتباع ويكسد سوق الجهل والتقليد.

وهذا من أسباب إلحاحنا على الناس في طلب الحق والدليل والتثبت من كل خبر وتمحيصه والرجوع إلى مصادره وناشريه. وبهذا الوعي والفقه ينشأ جيل جديد يتربى على القرآن والسنة ويعرف كيف يرتبط بالدليل والحق لا بالرجال والتقليد، ويعرف كيف يميز بين الكذب والصدق وبين الإشاعة والدعوة وبين التهريج والبناء.

من الأئمة الأربعة؟ وما موقفنا منهم؟

بالرغم من أن الإسلام قد شهد آلافاً تلو الآلاف من العلماء العاملين والفقهاء المخلصين وكان هذا جيلاً إثر جيل منذ الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا لم يمر على الناس زمان إلا وقائم لله على الناس بحجة. أقول: بالرغم من كل هذا فقد اشتهر عند الناس أربعة فقهاء ولد أولهم في أواخر القرن الأول وتوفي آخرهم قبل منتصف القرن الثالث أي أنهم عاشوا جميعاً في حقبة واحدة تبلغ قرناً ونصف، مائة وخمسين عاماً فقط. فما السبب في شهرة الأئمة الأربعة؟ ولماذا انحصر أمر الفقه عند عامة الناس فيهم؟ وما موقف الأمة من هؤلاء الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم؟

أول هؤلاء الأئمة مولداً هو الإمام النعمان بن ثابت والمكنى بأبي حنيفة رحمه الله. ولد سنة 80 هـ وتوفي سنة 150 هـ ونشأ بالكوفة واشتهر بالفقه والرأي، حاول عمر بن هبيرة أمير العراق أن يوليه القضاء فامتنع، ثم حاول معه أبو جعفر المنصور أن يتسلم القضاء فأبى فحبسه إلى أن توفي في حبسه. رحمه الله ورضي عنه. اكتسب عيشه بتجارة الخز، وأمضى حياته معلماً مرشداً في الكوفة وبغداد، ورزقه الله مجموعة صالحة من التلاميذ والأتباع أخذوا العلم عنه ودونوا ما كتب كان منهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر بن الهذيل وأعظم ما اشتهر به الإمام أبو حنيفة إعمال الرأي والقياس وإقامة الحجة على رأيه وما يذهب إليه حتى ليقول عنه مالك الإمام الثاني: " رأيت رجلاً لو كلمته في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته " (وفيات الأعيان (42: 5)). والمعنى لو قلت له أثبت أن هذه السارية ذهباً لأتى بحجج يقنعك بها. وهذه مبالغة لوصف إقناعه وقوة حجته. وقال فيه الشافعي أيضاً: " الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة " (وفيات الأعيان (35: 5))، وكان منهجه في درسه -رحمه الله- أن يجتمع بهم في المسجد ويلقي عليهم المسألة ثم يذهبون للبحث فيها ثم يجتمعون فيدلي كل منهم بدلوه ويقول رأيه، ثم يكر الإمام على آرائهم بالنقد والتعديل أو الإبطال ثم يقول رأيه ويكتب تلاميذه، وكثيراً ما نهاهم عن كتابة كل آرائه حيث يقول لتلميذه أبي يوسف: " ويحك يا يعقوب لا تكتب عني كل ما أقول فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً، ونقول القول غداً ونرجع عنه بعد غد " (ابن عبدالبر في (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء)).

وقد لجأ الإمام أبو حنيفة إلى استخدام الرأي كثيراً وذلك للنصوص الصحيحة القليلة التي تيسرت لديه، ولذلك سميت مدرسته الفقهية مدرسة الرأي وقد جابهت هذه المدرسة نقداً وهجوماً شديدين من مدرسة النص التي بدأت مع بروز نجم الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه. ثم اشتهرت وطبقت الآفاق ببروز نجم الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم بلغت ذروة مكانها على يد الإمام أحمد بن حنبل. وذلك أن الإمام مالك بن أنس جمع الموطأ وقد عده العلماء أصح كتاب بعد القرآن في دقته، ثم تيسر للشافعي الذي درس الموطأ وتتلمذ على مالك نصوصاً أخرى من الحديث الصحيح ثم جمع الإمام أحمد كتابه الفذ المسند وضمنه أربعين ألف حديث فكان وما زال أوسع مرجع جمع السنة وكان لهذا الجمع الأثر البالغ في القضاء على كثير من الآراء التي تبنتها مدرسة الرأي باجتهادها وخالفت فيها الحديث الصحيح.

وبعد هذا الاستطراد في بيان مدرسة الرأي ومدرسة النص نعود للإمام الثاني من الأئمة الأربعة وهو الإمام مالك رحمه الله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير