وقال الواحدي في «البسيط» (16): الصحيح أنّه ليس للكبائر حدٌّ يعرفهُ العباد (17)، وتتميز به عن الصغائر تمييز إشارة، ولو عُرف ذلك لكانت الصغائرُ مباحةً، ولكنّ الله -تعالى- أخفى ذلك على العباد ليجتهد كلُّ واحد في اجتناب ما نُهيَ عنه، رجاءَ أن يكونَ مجتنباً للكبائر، ونظيرُه إخفاء الصلاة في الصلوات، وليلة القدر في رمضان. اهـ.
ثم قيل: هي سبعة. وقيل: أربعة عشر. وقال ابن عباس: «هي إلى السبعين أقربُ منها إلى السبع». والصحيح أنها لا تنحصر، إذ لا يؤخذ ذلك إلا من السمع ولم يرِد فيه حصرُها، وقد أنهاها الحافظ الذهبي في «جزء» صنَّفه إلى السبعين.
ومن المنصوص عليه: القتل، والزنا، واللوط، وشرب الخمر، ومطلق السكر، والسرقة، والغصب، والقذف، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الفاجرة، وقطيعة الرحم، والعقوق، والفرار، ومال اليتيم، وخيانة الكيل، والوزن، وتقديم الصلاة، وتأخيرها، والكذب على محمد –صلى الله عليه وسلم-، وضرب المسلم، وسب الصحابة، وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة -وهي: القيادة على أهله-، والقيادة على أجنبي، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، واليأس من رحمة الله، وأمن المكر، والظهار، وأكل لحم الخنزير، والميتة، وفطر رمضان، والغلول، والمحاربة، والسحر، والربا، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونسيان القرآن بعد حفظه، وإحراق الحيوان بالنار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب.
وتوقف الرافعي (18) في «ترك الأمر» وما بعده، ونقل عن صاحب «العُدّة» جعْلَ الغيبةِ من الصغائر، وهو يخالف نصَّ الشافعي، كيف وهي أخت النميمة! وقد روى الطبرانيُّ (19) حديث المعذَبيْن في قبريهما، فذكر (الغيبة) بدل (النّميمة)، ومنها إدمان الصغيرة»، ثم قال:
«أن الإصرار (20) على الصغائر حكمه حكم مرتكب الكبيرة الواحدة على المشهور، وقال أبو طالب القضاعي في كتاب «تحرير المقال في موازنة الأعمال» (21):إن الإصرار حكمه حكم ما أصر به عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، قال: وقد جرى على ألسنة الصوفية (22): وربما يُروى حديثاً، ولا يصح.
والإصرار يكون باعتبارين؛ أحدهما: حُكميّ؛ وهو: العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها، فهذا حكمه حكم من كررها فعلاً، بخلاف التائب منها، فلو ذهل من ذلك ولم يعزم على شيء فهذا هو الذي تكفره العمال الصالحة من الوضوء والصلاة والجمعة والصيام، كما دل عليه الأحاديث» (23).
قال أبو عبيدة: لي هنا ملاحظات:
الأولى: معرفة الكبيرة بالحد أقعد، والأثر -على وجهٍ يأتي- أضبط، قال الرافعي حول التفريق بالقول بأن الكبيرة ما يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة: «أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر»، وعن القول: إن الكبيرة هي المعصية الموجبة للحد: «وهو إلى ترجيحه أميل».
ومع هذا، فلم يرتضِ العلائي هذه الفروق، فقال بعد أن نقل جملة من النصوص فيها التنصيص على بعض الكبائر، ثم تعرّض للأقوال المذكورة قائلاً:
«قلت: وفي كل منها نظر؛ لأنّ كلاً منها حد الكبيرة من حيث هي، وفيما تقدم من الأحاديث خصال ليست في واحد منها، لا سيما على الوجه الأول الذي اعتبر فيها شرعية الحدّ» (24).
قال أبو عبيدة: وهذا يلتقي كلاماً جيّداً مطولاً للصنعاني، سيأتي، والله الموفّق.
الثانية: ما ورد عن السلف في العدّ لا مفهوم له، مثل ما ورد عن ابن مسعود: «أكبر الكبائر أربعة. . .»، وعن ابن عمر: «سبع» (25)، وفي رواية: «تسع»، حتى قال ابن عباس: «هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع»، وليس هذا محل حصر بسبعين، وإنما هو الذي سنح له بباله أو تقديره حينئذ (26).
وقد توسع ابن حجر الهيتمي في «الزواجر» في ذكر (الكبائر)، وقد انتقده بعض المحققين من العلماء، فقال محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله- بعد كلام: هذا، ولقد صنّف ابن حجر الهيتمي كتابه «الزواجر»، وكثّر من الكبائر، حتى بلغت ثلاث مئة، ولكن جلُّها ما لا شاهد له من كتاب ولا سنة، وإنما هو مأخوذ من النهي عن كذا، وفيه: من فعل كذا. . .، إلى غير ذلك مما يُحيِّرُ مَن نظَرَ فيه» (27).
قال أبو عبيدة: وسبقه إلى نحوه العلامة الشيخ صالح المَقْبَليّ في ذيل كتابه النافع الماتع «العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء والمشايخ»، المسمى: «الأرواح النوافح» (28)، وهذا نصُّ كلامه فيه -منتقِداً إيّاه-:
¥