وعلّق الدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميِّس على ذلك فقال: " وروى هذا القول عن الإمام أبي حنيفة، فقد أسند إليه ابن عبد البرّ في الانتقاء قوله: الجماعة أن تفضّل أبا بكر وعمر وعليّاً وعثمان وما تنتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني أن نوح بن أبي مريم سأل أبا حنيفة عن مذهب أهل السنّة فقال: أن تفضّل أبا بكر وعمر وتحبّ عليّاً وعثمان. وجاء في مناقب أبي حنيفة للمكي: كان أبو حنيفة يفضّل أبا بكر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر، ثم يقول: على وعثمان " (112).
وقال الطحاوي في شرح العقيدة: " وقد رُوى عن أبي حنيفة تقديم عليّ على عثمان رضي الله عنهما، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان على عليّ، وعلى هذا عامّة أهل السنّة " (113).
وقد علّق الدكتور محمد الخميّس على قول الطحاوي فقال: " فقوله: رُوي - بصيغة التمريض - وهي تشعر بعدم ثبوت هذه الرواية عن الإمام أبي حنيفة، ولعله قد استند على ما روى عن الإمام أبي حنيفة في غير ما موضع من أنه كان يفضّل أبا بكر وعمر ويحبّ عليّاً وعثمان، فقوله: (عليّ وعثمان) لا يقتضي تقديم عليّ على عثمان لأن الواو في اللغة العربية لمطلق الجمع ولأن التقديم الذكرى لا يستلزم التقديم في الفضل، فالذي استقرّ عليه الإمام أبو حنيفة هوتفضيل عثمان على عليّ، دلّ على ذلك قوله: وأفضل الناس بعد النبييّن عليهم الصلاة والسلام أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب الفاروق، ثم عثمان بن عفّان ذو النورين، ثم عليّ بن أبي طالب المرتضى رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عابدين ثابتين على الحق ومع الحق نتولاهم جميعاً، ويقول: ونقرّ بأن أفضل هذه الأمة بعد نبيّنا صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، ثم نكفّ عن جميع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلاّ بذكر جميل " (114).
* وقال الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: " وثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمّة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون " (115).
* وقال ابن تيمية: " وجمهور الناس فضّلوا عثمان، وعليه استقرّ أمر أهل السنّة، وعليه أئمة الفقه كالشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك " (116). قلت: الظاهر والمشهور من رأي الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله هو ما عليه مذهب أكثر أهل السنة والجماعة من تفتضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ على سائر الصحابة بل على سائر المسلمين إلى قيام الساعة والله أعلم.
3 - أول الصحابة إسلاماً:
رُوى عن أبي حنيفة أن أولهم إسلاماً على الإطلاق أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها. قال النووي في الإرشاد: " ونقل الثعلبي وجماعة غيره إجماع العلماء أن أولهم إسلاماً خديجة، وإنما الخلاف فيمن أسلم بعدها " (117). قلت: وأبو حنيفة يدخل في هذا الإجماع.
وللإمام أبي حنيفة تفصيل جيد في أول الصحابة إسلاماً، فقد ذكر السخاوي في الفتح عن الحاكم في ترجمة أحمد بن عباس الواعظ أن أبا حنيفة كان يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان عليّ (118).
وذكر السيوطي قول ابن الصلاح والنووي: " والأورع أن يُقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان عليّ، ومن النساء خديجة، ومن الموالى زيد، ومن العبيد بلال " ثم قال السيوطي: قال البرماوي: " ويُحكى هذا الجمع عن أبي حنيفة " (119).
4 - تفضيل الصحابة وعدم سبّهم:
رُويت عن أبي حنيفة أقوال في تقديمه هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ونهى فيها عن سبّ أحد منهم ومن ذلك: سئل الإمام أبو حنيفة: من أي الأصناف أنت؟ فأجاب بقوله: أنا ممن لا يسبّ السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفّر أحداً بالذنوب " (120). وقال أبو حنيفة عن الصحابة: ويحبّهم كل مؤمت تقي، ويبغضهم كل منافق شقي " (121).
المسألة الثانية:
الترجيح عند التعارض بين الأحاديث:
قال التهانوي: " لا ترجيح بكثرة الرواية عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لأكثر العلماء ". وقال في موضع آخر: " فرجّح أبو حنيفة بفقه الرواة كما رجّح الأوزاعي بعلو الإسناد " (122).
خلاصة البحث
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على الرسول الكريم الدلّ على الخيرات والعبادات والأعمال الصالحات وآله وصحبه الذين حاربوا البدع والمعاصي والسيئات ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فهذا البحث المُعنون بـ (أصول الحديث عند الإمام أبي حنيفة) بحث استطعت بفضل الله وتوفيقه جمع ما أمكنني جمعه من الأقوال المأثورة عن هذا الإمام والآراء المنسوبة إليه في جملة مسائل تتعلق بعلوم الحديث أو أصول الحديث أو مصطلحه جمعتها مما تناثر في كتب المصطلح وضمّنت هذه المتناثرات في مطالب، حاولت في كل مطلب وضع عنوان له مما أُثر عن علماء الحديث في مصنفاتهم.
وقد بلغت جملة مسائل هذا البحث التي وجدت لأبي حنيفة أقوال وآراء فيها نحواً من سبع وعشرين مسألة من مسائل أصول الحديث مما يدلّ على ضلوع هذا الإمام في الحديث وعلومه ومساهمته في وضع بعض القواعد والقوانين والأسس التي نشأ عليها علم مصطلح الحديث فيما بعدُ مما كان له الأثر في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والدراسة في هذه المقولات التي نُسبت إلى الإمام أبي حنيفة توصلت فيها من خلال بحثي في مقولات الأئمة الثلاثة الآخرين (الشافعي ومالك وابن حنبل) إلى أن ما نُسب إلى أبي حنيفة أقل مما نُسب إلى هؤلاء الثلاثة الآخرين.
وفي الختام أدعو الله تعالى أن يجزل لهذا الإمام المثوبة والعطاء وأن ينفع بهذا العمل طلاب العلم والمتخصصين فيه إنه نعم المولى ونعم النصير والمجيب.
¥