وإلى هذا مال الإمام البخاري عليه رحمات ربنا القوي، وفقهه في تراجم أبوابه ومذهبه في تراجم أبوابه، فأورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الميزان والشفاعة والصراط، في كتاب الرقاق قال الحافظ ابن حجر:"أشار البخاري إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، أورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة والصراط"
ويفهم من كلام الحافظ ابن حجر الميل إلى هذا القول، حيث قال معللا ً ما سبق
(1) لأن الصراط بين الجنة والموقف ميزابان يغتان ويشخبان في الحوض، فلو كان الحوض في عَرَصَات الموقف وفي ساحة الحساب لكان الصراط حاجزاً بين هذين الميزابين وبين الحوض، فكيف سيصب الميزابان ماءهما في الجنة إلى الموقف وبينهما هذه الفجوة صراط وتحته جهنم. نسأل الله العافية وكل من سقط منه يسقط في جهنم وبئس المصير فإذا كان الأمر كذلك فالحوض بعد الصراط وهو قُبيل الجنة قََبل أن يدخلها المؤمنون يشربون من الحوض ويستقبلهم نبينا عليه الصلاة والسلام عندما ينتهون من الصراط فيسقيهم من حوضه فينتعشون ويفرحون بعد أن مَنَّ الله عليهم بالسلامة ثم يدخلون دار النعيم، وهذا دليل.
(2) دليل آخر قرروا به هذا القول وهو: أنه ثبت في الحديث أن مَنْ شرب مِنَ الحوض لم يظمأ بعده أبداً، وقالوا: إذا لم يكن الحوض بعد الصراط فسنقع في إشكال من هذا النص والنصوص الأخرى وهو أن عصاه الموحدين سيعذبون في نار الجحيم ولا بد أن يعذب منهم قسم لم يغفر الله لهم لأن الأحاديث تواترت في إخراج العاصين من النار وهذا يعني أن هناك عذاباً للعصاة لكن هناك أناس يعفى عنهم وأناس يعذبون، قالوا: فهؤلاء الموحدون اللذين عذبوا في النار هل شربوا من الحوض أم لا؟ إن قلنا لم يشربوا، فالأمر ليس كذلك لأنهم موحدون وليسوا من المخلدين في نار جهنم فهم يستحقون السقيا والشراب إذ كيف يعامل الموحد معاملة المنافق والملحد. وإن قلنا شربوا، فكيف سيلقون في النار، وفي النار سيعطشون. لكن إذا كان الحوض بعد الصراط فلا إشكال لأن من شرب منه دخل الجنة فالذي يعذب في النار، ثم يخرج يجوز على الصراط ثم يشرب من الحوض ويدخل الجنة وحينئذ لا إشكال هنا على هذا القول. وهذا القول على ما وجاهة ما عُلِّلَ به فهو مردود لأمرين:
الأمر الأول: لا مانع أن يكون بين الحوض والجنة فاصل، والميزابان يصبان فيه بطريقة يعلمها الله ولا نعلمها، كما قلنا في النيل والفرات فإنهما يَصبُّ فيهما نهر من أصل سدرة المنتهى بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها وكم بينهما من حواجب وفواصل وليس عندنا ميزاب متصل من سدرة المنتهى إلى النيل والفرات إنما هو أمر غيبي أخبرنا عنه نبينا عليه الصلاة والسلام آمنا به ولا نبحث في كيفيته.
والأمر الثاني: قولهم إذا شرب عصاة الموحدين من الحوض وعذبوا في النار سيجدون العطش والظمأ، نقول: لا يشترط هذا فيعذبون بغير أنواع العطش، وذلك ليتميز العصاة في النار عن غيرهم من الكفار الأشرار في أنهم يعذبون ولا يعطشون كرماً من الله وفضلا ً.
فالأمران مردودان، ثم نقول لهم أخبرونا كيف سيذاد ويدفع أناس عن الحوض إذا كان الحوض بعد الصراط؟! فهذا لا يأتي أبداً , فأدلتكم يمكن أن يجاب عنها، أما أدلة القول الأول فلا يمكن الإجابة عنها مطلقاً؛ ولذلك القول الأول هو الصحيح وعليه المعول بأن الحوض قبل الصراط والعلم عند الله.
الأمر الرابع: هل للأنبياء عليهم الصلاة و السلام أحواض في عَرَصَات الموقف وساحة الحساب كما لنبينا عليه الصلاة والسلام حوض:
سبق أن ذكرنا أن العبرة في هذا الموضوع على النقل لا على العقل، فعمدتنا المنقول الثابت ولا دخل للاجتهاد ولا للمعقول.
وقد ورد في ذلك حديث لكن اختلف في درجته، روى الإمام الترمذي في سننه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن لكل نبي حوضاً ترده أمته وإنهم ليتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً].
(يتباهون) أي يتحدثون بنعمة الله عليهم بمنزلة حوضهم وبمن سيرده.
(أيهم أكثر وارداً) أي جماعة يردون على حوضه.
¥