ثم قال في الحديث: "فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".
هاتان الجملتان فيهما خوف شديد، وفيهما رجاء عظيم، فالخوف من أن يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة ثم يختم له بالنار ـ والعياذ بالله ـ والعكس بالعكس، وهذا شيء مشاهد في هذا وفي هذا، وكله قد وقع في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد كان مع النبي، صلى الله عليه وسلم، في إحدى المعارك رجل شجاع مقدام لا يدع شيئاً للكفار إلا قضى عليه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "هذا من أهل النار" فعظم ذلك على الصحابة، إذ كيف يكون من أهل النار وعمله عمل أهل الجنة. فقال رجل: والله لألزمنه. فتابعه، فبينما هويقاتل أصابه سهم، فحزن وغضب ورأى أنه لا خير له في البقاء بعد هذا، فأخذ بسيفه ووضعه على صدره واتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره، فقتل نفسه، ومعلوم أن قاتل نفسه في النار، ولهذا لم يصل النبي، صلى الله عليه وسلم، على قاتل نفسه، فقاتل نفسه يعذب في النار بما انتحر به خالداً فيها مخلداً.
فلما أصبح الرجل الذي كان يراقبه ذهب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال: أشهد أنك رسول الله. فقال: "وماذاك؟ " قال: إن الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار حدث له كذا وكذا. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار".
فهذا يبين ما جاء في الرواية الأولى وهو أن المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام: "ليعمل بعمل أهل الجنة" أن ذلك فيما يبدو للناس وهذا والحمد لله يخفف الأمر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع" أي: حتى يقترب أجله، فهو فيما يبدو للناس يعمل بعمل أهل الجنة، أما فيما يخفى على الناس ففي قلبه سريرة خبيثة أودت به وأهلكته ولهذا فأنا أحث دائماً أن يحرر الإنسان قلبه ويراقب قلبه، فأعمال الجوارح بمنزلة الماء تسقى به الشجرة لكن الأصل هو القلب، وكثير من الناس يحرص ألا يخطئ في العمل الظاهر، وقلبه مليء بالحقد على المسلمين، وعلمائهم، وعلى أهل الخير، وهذا يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله، لأن القلب إذا كان فيه سريرة خبيثة فإنها تهوي بصاحبه في مكان سحيق.
فالحسد، وهو كراهية نعمة الله على الآخرين وإن لم يتمن زوالها، وقد اشتهر بين العلماء تعريف الحسد بأنه تمني زوال نعمة الله على الغير ولكن المعنى الدقيق للحسد هو كراهية نعمة الله على غيره سواء تمنى زوالها أو لم يتمن.
وهذا الحسد موجود في كثير من الناس وهو من خصال اليهود كما هو من خصال إبليس لعنه الله، فقال تعالى:] ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم [فإذا وجدت في قلبك حسداً على المسلمين جماعات أو أفراداً فاعلم أن في قلبك خصلة من خصال اليهود والعياذ بالله، فطهر قلبك من هذا الحسد، واعلم أن هذا الخير الذي فيه غيرك إنما هو فضل من الله فلا تعترض على فضل الله ولا تكره تقدير الله:] أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [.
وكذلك البغضاء، بغض المؤمنين أو دين الإسلام حتى وإن كان الشخص لا ينفذه لقول الله ـتعالى ـ:] ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ولا إحباط للعمل إلا إذا كان هناك كفر.
فليلاحظ الإنسان قلبه فيزيل عنه الحسد والبغضاء والحقد والكراهية والغل ويجعله صافياً مخلصاً لله تعالى وصافياً للمؤمنين.
وأيضاً فمن أسباب سوء الخاتمة محبة الكفار، لأنها سريرة خبيثة، بل الواجب على المسلم محبة المسلمين وموالاتهم وكراهية الكفار ومعاداتهم، فإذا كان الأمر بالعكس عند أحد الناس فذلك أمر خطير يخشى على صاحبه أن يختم له بسوء الخاتمة.
والمعاملة بالربا أيضاً من أسباب سوء الخاتمة، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" أن رجلاً من الناس كان يعامل بالربا، فلما حضرته الوفاة جعلوا يلقنونه الشهادة فيقول:عشرة، أحد عشر. لأنه ليس في قلبه إلا إرادة الدنيا فختم له بسوء الخاتمة، لأن الربا من أعظم الذنوب، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "إنه ورد فيه من الوعيد ما لم يرد على أي ذنب آخر دون الكفر، ولو لم يكن فيه إلا قول الله ـ تعالى ـ:] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فإذاًوا بحرب من الله ورسوله [والمحارب لله ورسوله يجب أن يكون حرباً على المؤمنين أيضاً، لأن المؤمن يوالي من والاه الله ورسوله ويعادي من عاداه الله ورسوله." أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة وأن يتوفانا على الإيمان وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
ومما ورد من الأمثلة على أن من أكرمه الله ـ سبحانه ـ بحسن الخاتمة مع ما كان عليه من عمل أهل النار، ما وقع للأصيرم من بني عبد الأشهل، فقد كان رجلاً كافراً، ولما سمع الصيحة لغزوة أحد خرج إلى القتال، فقاتل حتى قتل، فنظر إلى أصحابه وهو في آخر الرمق، فقالوا: ما الذي جاء بك؟ فقد علمنا أنك تكره هذا الأمر. فأخبرهم أنه خرج عندما سمع الهيعة، وطلب منهم أن يبلغوا رسول الله منه السلام، فصار خاتمة هذا الرجل الشهادة ومآله السعادة.
أسال الله ـ عز وجل ـ أن يختم لي ولكم بخاتمة السعادة إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اقتباس من موقع الشيخ، قام به الفقير إلى عفو ربه محمد مرباح الأثري رزقه الله الإخلاص في القول و العمل .... آمين