أين الخطأ المكنون في دعاء: "يا مَنْ أمرُهُ بينَ الكافِ والنّون".
ـ[أبوعمار السوري]ــــــــ[28 - 07 - 09, 03:16 ص]ـ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
بعدَ حمدِ الله تعالى والثّناءِ عليه، وبعد الصّلاة على نبيّنا محمّد والسّلام عليه، فلدى قراءتي للدّعاء المشهور: "يَا مَنْ أمرُهُ بَيْنَ الكَافِ وَالنُّونِ" قراءَةً شرعيّةً ولغويّةً متأنّيتينِ، تبيّنَ لي أنّ فيه إشكالاً كبيراً لا بدّ من الإشارة إليه وتوضيحه، على الصّعيدين الشّرعيّ واللّغويّ، أجمله بعون الله تعالى وحكمته فيما يأتي:
أوّلاً: المعنى اللّغويّ لهذا الدّعاء هو: "يا مَنْ أمرُهُ مستقرٌّ بين حرف الكاف وحرف النّون"؛ أي: أدعو اللهَ الّذي أمره مستقرٌّ بين حرف الكاف وحرف النون، وهذا يعني على المستوى الحقيقيّ للعبارة أنّ لأمر الله تعالى مكاناً محدّداً، هو بعد حرف الكاف وقبل حرف النون، وهذا بيِّنُ الفسادِ؛ لأنّ الله جلّ وعلا بذلك يكون قد وضع أمره وقضاءه بعد حرف الكاف، ولم يبقَ أمام تحقيقه إلاّ حرف النّون، وهذا محالٌ عقلاً وديناً وعرفاً ولغةً؛ لقوله تعالى: "فإذا قضى أمراً فإنّما يقولُ: له كُنْ فيكونُ" غافر/68.
فقضاء الله عزّ وجلّ لا يعلمه إلا الله، وهو غير محصور لا بمكان ولا بزمان، كما يتّضح من الآية الكريمة أنّ الله تعالى يقضي أوّلاً ثمّ بعد ذلك يقول للأمر "كُنْ"، فـ "يكونُ" بإذن الله، وعليه فلا مكان لأمره ولا جواز لأيّة عبارة أن تحدَّ أمر الله تعالى بمكانٍ معلومٍ.
ثانياً: ومن هنا لا يجوز أيضاً أن نقول: "يا مَنْ أمره قبل الكاف والنون" للأسباب الّتي ذكرتها، فلا أحد يعلم عن قضاء الله شيئاً، كي يحدّده في فضاء معيّن، ملموس أو محسوس، سواء بعد حرف الكاف أو قبله.
ثالثاً: كما لا يجوز إدخال الجملة في باب الكناية؛ لأنّ الكناية لها معنيان: الأوّل قريب مباشر، مقبول ولكنّه غير مقصود، والثاني بعيد غير مباشر مقبول وهو المقصود، فالمعنيان في الكناية مقبولان ولكنّ الأوّل غير مقصود والثاني هو المقصود، كقولنا مثلاً: "فلانٌ كثير الرّماد" كنايةً عن الكرم، فالمعنى الأوّل "كثير الرّماد" مقبول لكنّه غير مقصود، والمعنى البعيد "الكرم" مقبول وهو المقصود ...
أمّا عبارة الدّعاء فالمعنى الأوّل القريب فيها غير مقبول؛ ففسد بذلك المعنى البعيد؛ فلا يجوز أن نؤوّلها ما لا تحتمله من تأويل في معنى بعيد باطل.
وكذلك لا يجوز إدخالها في باب المجاز كالاستعارة أو المجاز المرسل؛ لأنّها ليست جملة خياليّة بل هي جملة عقليّة لا تقرب الخيال.
رابعاً: وكذلك لا يجوز أن يقصد بالدّعاء الفترة الزّمنيّة، لتحقيق مراد الله تعالى وأمره الذي قضاه؛ لأنّ ذلك في علم الله وحدَهُ، ولا نعلمُ شيئاً عنه: أهو بالوحي، أم بالكلام، أم بالمشيئة، أم بغير ذلك من الطرق الّتي تخص الذات الإلهيّة في علمها الأزليّ؟ وعليه فلا يجوز تحديد الفترة الزّمنيّة، ووضعها في مسافة سريعة أو بطيئة بين حرفي الكاف والنّون.
خامساً: والغريب في ذلك أن نجعل في هذا الدّعاء أمرَ الله تعالى وقضاءَهُ في مكانٍ محدّدٍ، وزمانٍ محدّدٍ، وهو القائل: "سبحانَه إذا قضى أمراً فإنّما يقولُ له: كُنْ فيكونُ" مريم/35.
والقضاء بذلك سابقٌ على القول كلّه؛ أي: القضاء أوّلاً، ثُمَّ حرف الكاف، فالنّون، وهو القائل جلّ وعلا: "ويومَ يقولُ: كنْ فيكونُ"، فزمن القول مجهولٌ لنا، معلومٌ لدى الله تعالى؛ لأنّ "يومَ" ظرف زمان مُبْهَم لدى السامع، معلوم لدى المتكلّم، وعليه فزمن القضاء مُقَدَّمٌ على قوله تعالى: "كن".
سادساً: والأخطر من ذلك كلّه: عندما نرى بعض العبارات في الكُتيِّبات الصغيرة، وضع فيها أصحابها قضاء الله تعالى وأمره وكلّ مرادِهِ بين حرفَي الكاف والنّون في قولهم: "سبحانَ مَنْ جعلَ خزائنَهُ بين الكاف والنّون"، وكأنّ القضاء بعد ذلك لا حاجةَ إليه، بعد أن استقرّ بعد الكاف، وكذلك لا حاجةَ إلى قوله تعالى: "كُنْ"، بل يكفي أن يقول "نون"؛ لأنّه قد قال "الكاف" وانتهى.
سابعاً: ولا بدّ من الإشارة إلى أنّني لم أجد هذا الدّعاء في كتب الصّحاح جميعها، فهو دعاء غير مأثور، وهذا ما دفعني إلى الجرأة في النظّر فيه من زاويةٍ نقديّة جريئة.
¥