وقد نبه الحق تبارك وتعالى إلى مثل ذلك في قوله جل شأنه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) " المائدة.
والمخالف هو كل من خالفك في أي شيء؛ فهو الوثني والملحد والكتابي والمرتد والمنافق والمبتدع بدعة اعتقادية والمبتدع بدعة عملية، وهو المنازع في المسائل الفقهية القطعية والظنية، وكذلك في المناهج المختلفة، سواء كانت دعوية أو سياسية أو عملية أو في أي صعيد. فكل من لا يرى رأيك أو عملك فهو لك مخالف.
وكل هؤلاء المخالفين ينبغي أن يعاملوا بقواعد العدل التي دلت عليه الشريعة. وإن كان الكلام هنا إنما هو على المخالفين من أهل القبلة.
وهذه أهم قواعد التعامل مع المخالف:
1. أن يعامل بعلم وخشية.
فمن أراد أن يعرف أثر العلم في كل شيء، ومنه التعامل مع المخالف؛ فلينظر إلى أثر الجهل: إنه وضع الشيء في غير موضعه، وهو الجمع بين المفترقات والتفريق بين المتماثلات، وإعطاء الشيء حكماً مبنياً على الوهم والشك.
ومن المعلوم أن حكم المرء لا يكون صحيحاً في شيء إلا بمعرفة دليل ما قال به، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ومنهج السلف في ذلك، والإجابة على أدلة المخالفين، ومتى ما فرط في شيء من ذلك فحكم على أحد أو أبدى رأياً فيه فقد اعتدى على المخالف بجهله، وحتى لو أصاب الحق في نفس الأمر فهو آثم لتفريطه، وهذا معنى ما قاله بعض أهل العلم: أخطأ وإن أصاب؛ كالقاضي يحكم بغير بينه ولا قرينة ولا إقرار فهو مخطئ آثم؛ وإن كان المتهم في نفس الأمر مجرماً.
وليس من العلم أن يقلد المرء غيره في الحكم على الآخرين وما يترتب عليه من التعامل معهم بهجر أو تنفير أو عقوبة، أو الحكم على أحد بكفر أو فسوق أو بدعة؛ فما كان قطعياً فلا تقليد فيه لظهوره، وما كان محل اجتهاد أهل العلم، أو مشكوكاً فيه لم يجز لأحد أن يخرج من المقطوع به وهو حرمة عرض المسلم، ولزوم وفائه جميع حقوقه بأمر مشكوك فيه لا يعرف وجهه ولا دليله، والعالم المستدل في أرائه ومواقفه قد يجد ما يُخرجه من العهدة، ويبرئ به الذمة، ولكن ما هي حال المقلد؟
والتقليد إنما أُبيح ـ على خلاف الأصل وهو وجوب النظر والاستدلال ـ أُبيح لدفع حاجة أو ضرورة في عبادة أو معاملة؛ فما هي الضرورة والحاجة في الحكم على الآخرين بحكم، أو معاملتهم بما يُخشى معه بخس أعظم حقوقهم؟
ولو فقه المسلمون خطر التقليد، ووكلوا علم ما لم يحققوه إلى العلماء الربانيين من أهل السنة، وجعلوا لهم القياد في مواجهة البدعة وأهلها لما وقع ما وقع من العدوان والظلم على المخالف وغيره؛ مما اختلت به الموازين واضطربت معه الأحكام وتشوهت به الصورة، وأعرض عن الحق بسببه فئام من الخلق.
قال الله تعالى: "وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ?? وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى?? أُوْلِى ?لأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ? وَلَوْلا فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ? لاتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلا قَلِيلا".
أما خشية الله تعالى فهي أعظم ثمرات العلم، ومن لم يورثه العلم خشية فما حصله ليس بعلم في حقيقته وروحه، وإنما هو صورته وجثمانه.
فأعظم وقاية للمسلم من أن يعتدي على غيره تصحيحُ أعمال القلوب من معرفة الله عز وجل وقدره حق قدره، وتعظيم أمره ونهيه والخوف منه، ومحبته، ومحبة دينه وأوليائه، وبغض الكفر والفسوق والبدعة وأوليائها، والإنابة والإخبات إليه، والحذر من عقوبات الجبار في الدنيا والآخرة؛ تورثه علماً بالله تعالى لا تؤثر فيه ـ مع رسوخ هذه المعاني في قلبه ـ حظوظ النفس وشهواتها وتعلقها بما حولها من محبوب أو متبوع، وإنما حرر قصده، وجرد وجهه لله وحده؛ ممتثلاً قوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين".
¥