ولهذا سمى الباري تعالى المطاعات دون طاعته أنداداً؛ فقال جل شأنه: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ".
وكان من أعظم صفات العلماء هي الخشية والعمل المخلص، قال جل شأنه: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال الله تعالى: "أمن هو قانت آناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وبعد حكايته رحمه الله أقوالاً للكرامية والمعتزلة والقدرية والمجبرة قال (8/ 96): ( .. والله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم) ..
.. (وقد حرم سبحانه الكلام بلا علم مطلقاً، وخص القول عليه بلا علم بالنهي؛ فقال تعالى: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" [الإسراء: 36]، وقال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" [الأعراف: 33]. وأمر بالعدل على أعداء المسلمين .. ) أهـ.
2. أن يكون التعامل بعدل وإنصاف.
فإن العدل فضيلة مطلقة؛ لا تقييد في فضله؛ فهو ممدوح في كل زمان وكل مكان، وكل حال، ممدوح من كل أحد، مع كل أحد، بخلاف كثير من الأخلاق؛ فإنه يلحقها الاستثناء والتقييد.
ولهذا اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول، وما من أمة أو أهل ملة إلا يرون للعدل مقامه.
وبالعدل تحصيل العبودية لله وحده، وبه تُعطى الحقوق وتُرد المظالم، وبه تأتلف القلوب؛ لأن من أسباب الاختلاف الظلم والبغي والعدوان، وبه يُقبل القول، أو يعذر قائله، وبه تحصل الطمأنينة والاستقرار النفسي.
ثم ينتج عن ذلك ازدهار العمران المادي والمعنوي، ولهذا تلحظ تناسباً طردياً بين شيوع العدل وقوة العمران عند الأمم.
وكان العدل سبباً لإنزال الكتب وإرسال الرسل، قال الله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".
وكان من أبرز سمات دعوة شعيب عليه السلام ـ بعد تقرير توحيد الله تعالى ـ إقامةُ القسط في الموازين والمكاييل، قال الله تعالى: "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين".
فإذا كان هذا من أجل حفنة شعير أو قبضة حنطة فما بالك في مراد الله تعالى بالعدل في التعامل مع الآخرين والحكم عليهم؛ مما ترخص الأموال فداء له وهو عرض المرء وكرامته؟ ولهذا قال حسان:
أصوني عرضي بمالي لا أدنسُه لا بارك الله بعد العرض في المالِ
أحتال للمال إن أودى فأكسِبُه ولست للعرض إن أودي بمحتالِ
وكان للعادلين أعظم مكان، وأهيب مشهد؛ فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا ".
لقد كان لأهل العدل هذا المقام لأنه ليس دعوى مجردة، أو أمنية لا عزيمة معها، أو شعاراً لا معاناة في تحصيله؛ ولكنه أسباب تتراكم وتجتمع وجهود تُبذل؛ فمن حققها تحقق عنده العدل وإلا جار في تعامله مع الآخرين، وفي حكمه عليهم دون أن يشعر.
¥