وإذا أراد المرء أن يمتحن نفسه في العدل، وأن يمحص دعواه الإنصاف فليتحقق في نفسه أموراً إن وجدها كان حرياً بوصف العدل، وإن فقدها فهو على خطر:
فمنها: تحصيل العلم الشرعي؛ فتحقيق المسائل التي يُحكم بها على الآخرين ضروري لتحقيق العدل مع الناس، ومن قصّر في تحصيله فليس بمعذور أن يحكم أو يتعامل مع أحد بمعاملة يكرهها.
ومنها: التأني، وأن يجعل للزمن مجالاً قبل الكلام في حق شخص أو مؤسسة، وهذا التأني يكون في تخريج المناط وفي تحقيقه.
ومنها: العلم بواقع الحال، من معرفة حال الشخص الذي نتعامل معه، أو نحكم عليه من ناحية علمه وجهله بما فعله، والأسباب والدوافع لذلك الفعل، وأسباب المعذرة، ومعرفة ما لديه من حسنات قد تغمر ما بدا منه من خطأ أو زلل.
فهذا حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه فعل أمراً عظيماً بتسريب خبر توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لغزوها؛ فتأنى النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عن الفعل أولاً بقوله: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟، ثم سأله عن السبب؛ بقوله: "ما حملك على هذا"؟ وهذا يدل أن للأسباب والدوافع تأثيراً في الحكم، ثم أعفاه من العقوبة؛ حين وازن بين سيئاته وحسناته فقال: "وما أدراك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
ومنها: اتهام النفس؛ فإنه بداية تلمس أسباب العدل، والوقوف على ما يعين عليه، ومتى كان المرء مزرياً على نفسه متهماً لها، يتوقع منها الخلل والزلل والهوى كان أبعد الناس عن الوقوع في الظلم والعدوان.
وإذا استرخى عن استشعار ذلك حل محله ظن الكمال والكِبْر؛ فيُزين الشيطان له عمله، ويزيده إغواء بأن يوهمه أن هذه الظنون هي الثقة بما ما معه من الحق، والعزة على أهل الباطل.
ومن اتهم نفسه رأى نفسه في كل وقت محتاجاً إلى التعرف على أسباب العدل، ورآها محتاجة إلى النصيحة والتقويم.
وإذا فرط في عمل القلب فقد وقع في الظلم والجور دون أن يعلم.
ومن أسباب العدل: أن ينظر إلى أعماله السابقة، وأحكامه السالفة، وكذلك أحوال الظلمة؛ فكثير من الناس يكون جوره وظلمه بسبب غضبه وتوتره واضطراره إلى علاج الحالة في ضيق من الزمان أو المكان، أو ضغط الأحوال والأشخاص الذين يحيطون به؛ فإذا تجرد من هذه المؤثرات فقد يظهر له جور أو ظلم أو عدوان؛ فإذا قومها فرأى فيها سداداً وتوفيقاً حمد الله تعالى عليه، وإن رأى غير ذلك راجع نفسه وذاكرها؛ حتى يقيمها على أمر الله، ومن ترك تقويم الماضي ومراجعته عاد إلى جوره مرة أخرى دون أن يشعر.
ومن أسبابه: الشجاعة الأدبية مع من يخافهم أو يحبهم أو يرجوهم؛ فهو قوي شجاع عند تكبير محبيه أو شماتة أعاديه؛ فإن جرب من نفسه ضعفاً عندها وخوراً في مواجهة ذلك فهو محل للحيف والظلم؛ فليكن على حذر.
ولهذا كانت البيعة العظيمة التي قال عنها عبادة بن الصامت رضي الله عنه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكارهنا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالعدل أين كنا لا نخاف في الله لومه لائم. رواه النسائي وهو صحيح، وأصله في "الصحيحين".
وتأمل في الشجاعة أمام المبغَضين قول الله تعالى: "وَلاَ يَجْرِمَنكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتقْوَى".
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة" (5/ 126، 127): ( .. ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين علي الملك، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بظلم وجهل، وإن العدل واجب لكل أحد وعلي كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقاً لا يباح بحال قط،قال تعالي: ?وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?، وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغضٌ مأمور به، فإن كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه).
¥