أن هذا فيمن فعل معتمدًا عليه لا على الله - تعالى -، أو لخطر الاكتواء، أو يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - قصد إلى نوع معين من الكي مكروه بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كوى أبيًّا يوم الأحزاب على أكحله لما رمي، أو يقصد به كي الصحيح لئلا يعتل، ويرد عليهم أيضاً بأدلة القائلين بالمشروعية كما سيأتي.
القول الثالث:
أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من (حفظ النفس) الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع؛ واختار القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وابن الجوزي أن فعل الدواء أفضل من تركه. واختلفوا في مشروعيته على قائل بالوجوب وقائل بعدم الوجوب:
أ- فذهب جمهور العلماء إلى عدم الوجوب؛ قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: (ليس بواجب عند جماهير الأئمة، إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد) (11).
وقال الوادياشي الأندلسي: (ونقل عياض الإجماع على عدم وجوبه، واعتُرض بأن لنا وجهاً بوجوبه إذا كان به جرح يخاف منه التلف) (12).
ب- وذهب جماعة منهم إلى أنه مباح، وهو قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية (13).
أما إذا خشي الإنسان على نفسه التلف بتركه فإنه حينئذٍ يجب، وقد أخذ مجمع الفقه الإسلامي بالقول بوجوب التداوي إذا كان تركه يفضي إلى تلف النفس أو أحد الأعضاء أو العجز، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية (14).
وهذا يؤخذ منه أن الدواء إذا تُيقن نفعه وكان المرض مما يخشى منه التلف، وجب التداوي، فيدخل في ذلك إيقاف النزيف، وخياطة الجروح، وبتر العضو التالف المؤدي إلى تلف بقية البدن، ونحو ذلك مما يجزم الأطباء بنفعه وضرورته، وأن تركه يؤدي إلى التلف أو الهلاك.
الأدلة على مشروعية التداوي:
1 - قال الله تعالى عن العسل:] فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [[النحل:69] فهو دليل على جواز التداوي بشرب الدواء.
2 - عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» (15).
3 - عن أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى قال: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً أَوْ قَالَ دَوَاءً إِلاَّ دَاءً وَاحِدًا». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ قَالَ: «الْهَرَمُ» (16).
4 - عن أم قيس بنت محصن قالت سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، يُسْتَعَطُ بِهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» (17).
الْعُودِ الْهِنْدِيِّ: خشب طيب الرائحة يؤتى به من الهند قابض فيه مرارة يسيرة وقشره كأنه جلد مواشي.
أَشْفِيَةٍ: جمع شفاء أي دواء.
الْعُذْرَةِ: وجع بالحلق يهيج من الدم، وقيل قرحة تخرج بين الأنف والحلق، ولعله ما يسمى بالتهاب اللوزاتين.
يُلَدُّ: من اللدود وهو ما يصب في أحد جانبي الفم من الدواء.
ذَاتِ الْجَنْبِ: هو ورم الغشاء المستبطن للأضلاع.
5 - الأدلة على احتجام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتداوى بالحجامة.
6 - ولما سئلت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن علمها بالطب قالت: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسقم عند آخر عمره فكانت تقدم إليه وفود العرب من كل وجه فينعت لهم الإنعات، فكنت أعالجه) (18).
الراجح:
وبعد عرض تلك الأدلة يتبين لنا رجحان قول القائلين بوجوب التداوي أو على الأقل باستحبابه لورود الأمر بذلك وأقل مراتب الأمر الاستحباب؛ قال العز بن عبد السلام - رحمه الله تعالى -: (الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام) (19).
¥