وأما القاضي فلا يحسن به إخراجها من الأصول على أصله الذي حكيناه عنه.
هذا ما قال، والجواب أن الأصلَ على كل تقديرٍ لا بد أن يكون مقطوعاً به؛ لأنه إن كان مظنوناً تطرق إليه احتمال الإخلاف، ومثل هذا لا يجعل أصلاً في الدين عملاً بالاستقراء، والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نصَّ عليها.
ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة، وهو المراد بقوله تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم)) أيضاً؛ لا أن المراد المسائل الجزئية، إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة وليس كذلك؛ لأنَّا نقطع بالجواز.
ويؤيده الوقوع لتفاوت الظنون، وتطرق الاحتمالات في النصوص الجزئية ووقوع الخطأ فيها قطعاً، فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد وفي معاني الآيات، فدلَّ على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كلياً، وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعياً، هذا على مذهب أبي المعالي.
وأما على مذهب القاضي فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفاً على تلك القوانين التي هي أصول الفقه فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها واختبارها بها، ولزم أن تكون مثلها بل أقوى منها؛ لأنَّك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة بحيث تطرح الأدلة إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين، فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها.
ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها؛ فإنها حاكمة على غيرها فلا بد من الثقة بها في رتبتها، وحينئذ يصلح أن تجعل قوانين.
وأيضاً لو صح كونها ظنية لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة وذلك غير صحيح.
ولو سلم ذلك كله فالاصطلاح اطَّرد على أن المظنونات لا تجعل أصولاً، وهذا كاف في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاقٍ، فما جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعاً عليه بالتبع لا بالقصد الأول.
المقدمة الثانية: إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية
لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به، وهذا بيَّن.
وهي إما عقلية كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والجواز والاستحالة، وإما عادية وهي تتصرف ذلك التصرف أيضاً، إذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل، وإما سمعية وأجلُّها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ بشرط أن تكون قطعية الدلالة أو من الأخبار المتواترة في المعنى أو المستفاد من الاستقراء في موارد الشريعة.
فإذا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة: الوجوب والجواز والاستحالة، ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع.
فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة فراجع إلى وقوعه كذلك أو عدم وقوعه كذلك.
وكونه صحيحاً أو غير صحيح راجع إلى الثلاثة الأول.
وأما كونه فرضاً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً أو حراماً فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول، فمن أدخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض".
هذا كلام الإمام الشاطبي بطوله، ولا يُسلَّم كلُّ ما فيه.
وأيضاً وافق على ذلك بعض المتأخرين مثل الإمام شهاب الدين القرافي في الإحكام.
ويقول الشيخ حلولو في كتابه التوضيح في شرح التنقيح ما نصه:
"فائدة كلامية وفقهية: لا خفاء في صحة الاستناد إلى العلم في العقائد وغيرها، ويتمسك بالاعتقاد في العلميات، وفي الاكتفاء بذلك في العقائد الإيمانية خلافاً، وأما الظن فلا يعتمد عليه في العقائد الإيمانية اتفاقاً، ولا في القواعد الكلية كحلية النكاح والبيع، وكذا في أصول الفقه على اختلاف فيه، وغالب الظن مما يجب التمسك به في الجزئيات العمليات، إلا في النادر، كالحلف على غلبة الظن على المختار، وربما اعتبر الشرع غلبة الظن بأمارات خاصة على معنى التعبد".
الرأي الثاني: أن الأصول تبنى على القطعيات والظنيات:
وطائفة ذهبت إلى أن أصول الفقه لا تشبه أصول الدين، ويكتفى في مسائلها بالظن الغالب، دون تطلب القطعيات فيها.
وهذا ما جرى غالب المصنفين في أصول الفقه، خصوصاً من الفقهاء الحنفية والمالكية، إذ لا يرون الحرج في ذكر الأدلة الظنية في الاستدلال على مسائل الأصول.
المطلب الثالث: رأي الإمام الغزالي في هذه المسألة:
¥