وهذا معنى ما قلنا من قبل في غير هذا المكان، إن الأولوية مسقطة للمفهوم، كما إذا كانت من طريق التفخيم، كما في قوله تعالى ((حقاً على المتقين)) فلا ينفي الحكم عمن دونهم، وإن كانوا هم به أولى من غيرهم لشرفه وشرفهم.
ومع أن سياق الكلام كان في غاية الظهور أنا استعملنا الأولوية في محل النطق، وقيدنا بالفائدة ـ إذا كانت من طريق التفخيم ـ في الطعن في القول بمفهوم المخالفة في النص المدعى، بل قد كان هذا الطعن هو قضية الكلام والبحث والخلاف أصلاً، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الناس من أن يفتروا علينا بالباطل، بأننا نثبت الأولوية لمفهوم المخالفة في محل السكوت، ولا أدري من أين أتى بمحل السكوت هذا، مع أننا قررنا مراراً وتكراراً بسقوط مفهوم المخالفة جملة إذا كان العاري عن الوصف أولى بالحكم، وهو مرادف للأولوية في المسكوت. فالموعد القيامة.
إذن فهناك طعن جملي وطعن تفصيلي لدليل الخطاب، فالطعن الجملي لصلاحية النص لأن يكون من دليل الخطاب؛ بأن يكون الوصف في محل السكوت أولى أو مساوي. يعني أنه أعلى، يعني أنه في محل النطق أدنى. أما أقسام الطعن التفصيلي فسيأتي الكلام عليها.
ومن الطعن الجملي لمفهوم المخالفة أن يعارض بما يقتضي خلافه، مثاله قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج ((يدعون أهل الأوثان)). وهم في الخبر على وجه القطع أهل الذمة والعهد والأمان.
فهذا لا مفهوم له من جهات منها ما هو أولي في المسكوت عنه، منها أنه مخالف للواقع، فإن من النجدات من رؤوس الخوارج من يرى خلاف ذلك، قال الشهرستاني: " واستحل نجدة بن عامر دماء أهل العهد والذمة وأموالهم في دار التقية وحكم بالبراءة ممن حرمها " (24) أهـ فكان من أول من أحدث هذا في قول الخوارج.
لذلك قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ " وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بعضهم ((يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)) أهـ
مسألة
في الجمع بين دلالة المنطوق ودلالة المفهوم في النص تكثيراً للفائدة:
قال تعالى ((ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)).
فباعتبار أن الحكم (عدم القتل) في محل السكوت (أمن الإملاق) أولى منه في محل النطق (خشية الإملاق). فهذا يلحقه بمفهوم الموافقة، ويخرجه عن دليل الخطاب جملة. فهذا استعمال لدلالة المفهوم.
وباعتبار ما في المنطوق من الفوائد غير نفي الحكم عن المسكوت عنه ـ القوادح التفصيلية لمفهوم المخالفة ـ أن (خشية الإملاق) خرج مخرج الغالب فلا مفهوم مخالفة له، ومنها أنه خرج لفائدة أخرى وهي حاجة المخاطبين؛ لأن هذا كان أصل فعلهم. فهذه فوائدة في محل النطق تقدح في مفهوم المخالفة.
قال السمعاني: (وذكروا فوائد فى التقييد بالصفة منها أنه قد يكون اللفظ لو أطلق فى بعض المواضع لتوهم متوهم أن الصفة خارجة عنه فتذكر الصفة لإزالة هذا الإيهام، وهذا مثل قوله تعالى ((ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)) الإسراء 31، لو أطلق لكان يجوز أن يتوهم به متوهم أنه لم يرد عند خشية الإملاق، فقول الله تعالى خشية إملاق ليرفع هذا الإيهام. وهذا غرض صحيح.
ومنها أن تكون البلوى تعم بالصفة المذكورة وما عداها لم يثبته على الناس فقيد الله تعالى الخطاب بالصفة لإحداث البلوى بها وهذا أيضا مثل قوله تعالى ((ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)) الإسراء 31) (25) أهـ.
فقوله (أن تكون البلوى تعم بالصفة المذكورة) يعني ما يعرف بأنه خرج مخرج الغالب، والمقصود تكثير الفائدة من النص، فكما أن له فوائد بتخصيصه بالذكر في محل النطق، فله فائدة إثبات الأولوية في محل السكوت وهو هنا أمن الإملاق.
والمقصود أيضاً أنه لا تعارض بين إثبات القادح الجملي لمفهوم المخالفة؛ بأن الموضع من مفهوم الموافقة، وبين إثبات القادح التفصيلي لها كالأغلبية أو أي فائدة أخرى، بل هذا حسن لما فيه من الجمع بين فائدة اللفظ في محل النطق ومحل السكوت.
وقال بعض الناس في نقده لأبي ريحانة: (فوقع
في التناقض بين اشتراطه (قيد الأغلبية) وإنما هو في مفهوم المخالفة وبين
قوله بمفهوم الموافقة في الحديث، ولم يشترط أحد من أهل العلم في الأصول
قيد الأغلبية في مفهوم الموافقة، فإما أن يلغي هذا المعنى (كون - يدعون أهل
¥