ويسميه الزركشي بـ (استصحاب الحاضر في الماضي) ويسميه بعضهم بـ (استصحاب القهقرى) أو (الاستصحاب المعكوس)، وهو عكس الاستصحاب المعروف وهو أن يثبت حكماً للزمن الماضي لثبوته في الزمان الحاضر فيحتج بثبوته في الحاضر على ثبوته في الماضي.
سادسا: هل النافي للحكم يلزمه الدليل؟
هذه المسألة من أهل العلم من ربطها بالاستصحاب فقال من قال بحجية الاستصحاب فليس عليه دليل ومن قال بعدم حجيته لزمه الدليل، لكن الطوفي ضعف هذا الأمر وبين أن كل واحدة من المسألتين أصلٌ بنفسها.
تحرير محل النزاع:
أولا: اتفقوا على أن المثبت للحكم يلزمه الدليل كأن يقول: أوجب الله كذا، أو حرم كذا.
ثانياً: اتفقوا على أن النافي للحكم إن كانت دعواه مركبة من نفي وإثبات أنه يلزمه الدليل كقوله تعالى: ? وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ?
وإنما وقع الخلاف في النفي المجرد كأن يقول: ليس على الصبي زكاة ونحو ذلك، فهذا اختلف فيه على أقوال:
القول الأول: أنه يلزمه الدليل وهو قول الأكثر من الفقهاء والأصوليين والمتكلمين وقد اختاره الباقلاني والشيرازي والسبكي من الشافعية والباجي من المالكية وابن قدامة والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب وابن تيمية من الحنابلة وهو قول ابن حزم.
القول الثاني: أنه لا يلزمه الدليل وهو قول بعض الظاهرية وبعض الشافعية.
القول الثالث: أنه يلزمه الدليل في العقليات دون الشرعيات.
القول الرابع: أنه يلزمه الدليل فيما ليس بضروري ولا يلزمه في الضروري وهو قول الغزالي والعبادي والآمدي.
القول الخامس: أن النفي نوعان: نفي يستلزم إثبات ضد المنفي فهذا يلزم النافي فيه الدليل كمن نفى الإباحة فإنه يطالب بالدليل قطعاً، والثاني نفي لا يستلزم ثبوتاً كنفي صحة عقد من العقود أو شرط و عبادة في الشرعيات ونفي إمكان شيء ما من الأشياء في العقليات فالنافي إن نفي العلم به لم يلزمه دليل وإن نفى المعلوم نفسه وادعى أنه منتف في نفس الأمر فلا بد له من دليل، وهذا اختيار ابن القيم، وبنحوه قال ابن برهان أن النافي يلزمه الدليل إلا إذا كان ينفي العلم عن نفسه.
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1 – قوله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه}.
وجه الاستدلال: أن الله أنكر على من قطع بالنفي بدون دليل فدل على وجوب الدليل عليه.
2 – قوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.
وجه الاستدلال: أن الله طالب من زعم أنه لا يدخل الجنه إلا اليهود والنصارى بالبرهان والدليل وهذا دليل على وجوبه.
لكن قد يجاب عن هذا بأن المطالبة هنا لأن الدعوى فيها نفي دخول غير اليهود والنصارى وإثبات دخول اليهود والنصارى فهي مركبة من نفي وإثبات فاحتاجت إلى دليل كما سبق في تحرير محل النزاع فهي خارجة عن محل النزاع.
3 – قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
وجه الاستدلال: أن الله حرم أن يقول أحدٌ عليه شيئاً بلا علم ولا دليل وهذا عام في النفي والإثبات.
4 – القياس على الإثبات فكما يجب الدليل في القطع في الإثبات فكذا في النفي.
5 – أن النفي بذاته لا يكون دليلاً فيحتاج إلى دليل فقوله: (لا زكاة على الصبي) نفي مجرد كقوله: (لا زيد ولا عمرو)، وهذا عدم، والعدم لا يكون دليلاً فلا يكفي في باب الأحكام.
6 – أن القول بعدم مطالبة النافي بالدليل يلزم عليه لوازم باطلة منها:
أ – أن من نفى وجود الخالق أو صفاته أو حدوث العالم أو نحو ذلك لا يطالب بالدليل وهذا باطل.
ب – أنه يجوز للمثبت أن يقلب إثباته فيسدل عن طريق النفي ولا يحتاج عندئذٍ لدليل، وفي هذا خبط وجهل وضلال إذ تبقى الأحكام بدون أدلة.
أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1 – قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
¥