أنّ خالد الحذاء أخطأ في نسبة الجلسة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم. و خالفه مَن هو أحفظ منه و أثبت، فنسبها إلى عمرو بن سلِمة، و ميّزها عن صفة الصلاة التي صلاها مالك بن الحويرث رضي الله عنه. بل و استغربها و نبّه على أنّ الناس لا يفعلونها. و يعني بالناس مَن أدرك مِن التابعين.
و أنّ عبد الحميد بن جعفر أخطأ في ذكر الجلسة قبل القيام، و نفاها عيسى بن عبد الله و غيره. و لم يتعرض لذلك جُل مَن روى حديث أبي حميد.
قد يقول قائل: كيف تضعف رواية وردت في صحيح البخاري؟
و الجواب: أنّ هذا ليس بدعا من الأمر؛ فقد روى البخاري في صحيحه، في كتاب (الإستئذان) باب: من ردّ فقال: عليك السلام حديث رقم (6251) عن أبي هريرة من طريق عبد الله بن نُمير، في حديث المسيء صلاته، و فيه: " ثمّ اسجد حتى تطمئنّ ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئنّ جالسا ... "
قال البخاري نفسه مشيرا إلى خطإ ابن نُمير: " و قال أبو أسامة في الأخير " حتى تستوي قائما ".
فقد يخطئ الثقة، حتى و إن كان ما روى في الصحيح؛ كما أخطأ (معمر) في حديث ماعز فأثبت الصلاة عليه. قال البخاري نفسه (6434): " لم يقل يونس وابن جريج عن الزهري:" فصلى عليه " ... سئل أبو عبد الله هل قوله:" فصلى عليه " يصح أم لا؟ قال: رواه معمر. قيل له: رواه غير معمر؟ قال: لا "
و ههنا فائدة نستفيدها، و هي: أنه ليس كل حديث ظاهره الصحة، يُشرع العمل به. فقد يكون معلولاً، أو منسوخاٌ، أو معارَضاٌ بما هو أقوى منه ... و قديما قال ابن وهب رحمه الله: " الحديث مضلّة إلاّ للفقهاء ".
و بالمقابل، فقد يكون الحديث ضعيفًا، و لكن عمل الناس على مقتضاه. كما روى الترمذي في (سننه) حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال: " كان النبي صلى الله عليه و سلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه " أي: لا يجلس جلسة الإستراحة.
قال الترمذي: حديث أبي هريرة عليه العمل عند أهل العلم، يختارون أن ينهض الرجل في الصلاة على صدور قدميه. ثم بيّن ضعف الحديث.
لكن سلّمنا جدلاً، أنّ اللفظ الذي رواه خالد محفوظ. فهل مجرد رؤية مالك بن الحويرث رسولَ الله صلى الله عليه و سلم يجلس قبل النهوض كافٍ لتكون سنة في الصلاة و هيئة من هيئاتها؟ أم أنها من وقائع الأحوال التي لا تفيد العموم؟
قال ابن القيّم رحمه الله في (الزاد): " ... و مجرد فعله – صلى الله عليه و سلم – لا يدل على أنها من سنّة الصلاة، إلاّ إذا عُلم أنه فعلها على أنها سنة يُقتدى به فيها. و أمّا إذا قُدر أنه فعلها للحاجة، لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة. فهذا تحقيق المناط في هذه المسألة. اهـ
و قال ابن دقيق العيد رحمه الله في (الإحكام ص: 251): - أنّ الأفعال إذا كانت للجبلّة أو ضرورة الخلقة لا تدخل في أنواع القُرب المطلوبة، كما قال المغيرة بن حكيم: " أنه رأى عبد الله بن عمر يرجع من سجدتين من الصلاة على صدور قدميه، فلمّا انصرف ذكرتُ له ذلك فقال: إنها ليست من سنة الصلاة. و إنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي. و في حديث آخر غير هذا في فعل آخر لآبن عمر أته قال: " إنّ رجليّ لا تحملاني ".
قال: - فإن تأيّد هذا التأويل بقرينة تدلّ عليه؛ مثل أن يتبيّن أنّ أفعاله السابقةَ على حالة الكبر و الضعف، لم يكن فيها هذه الجِلسة، أو يقترن فعلها بحال الكبر، من غير أن يدل دليل على قصد القربة. فلا بأس بهذا التأويل ...
قال: - لكن لقائل أن يقول: ما وقع في الصلاة، فالظاهر أنه من هيئتها، لا سيما الفعل الزائد الذي تقتضي الصلاة منعه. و هذا قوي، إلاّ أن تقوم القرينة على أن ذلك الفعل كان بسبب الكبر أو الضعف، فحينئذٍ يظهر بتلك القرينة أنّ ذلك أمرٌ جِبِلي. فإن قوي ذلك باستمرار عمل السلف على ترك ذلك الجلوس، فهو زيادة في الرجحان.اهـ
قلت: و يُفهَم من هذا التقرير، أنه ينبغي إثبات ثلاثة مطالب، و هي:
- القرينة على أنّ تلك الجلسة كانت بسبب الكِبر أو الضعف.
- بيان أن صلاته صلى الله عليه و سلم في الحالات العادية لم يكن فيها تلك الجلسة.
- الدليل على استمرار السلف على ترك ذلك الجلوس.
¥