قلتَ: (ولما كانت هذه العلة من الظهور بمكان، لم أقف على أحد من المفسرين أنكرها، أو ردها. فلدينا إذن دليلان على أن علة الحجاب وسببه هو: تحصيل طهارة القلب:
- الأول: أن هذا هو الظاهر، وليس ثمة شيء يصرف هذا الظاهر، لا عقلا، ولا شرعا.
- الثاني: أنه لم يؤثر عن المفسرين إنكارهم هذه العلة، وهذه أقوال جملة منهم)
أقول: لم أجد في أقوال المفسرين التي نقلتها تنصيص على الحكم وعلته كما فعلت، ولم أره إلا في نص الشنقيطي رحمه الله، وكونهم يذكرون أن التطهير نتيجة للحكم لا يلزم منه التعليل به، ثم إني قلت لك إن الحكم أصلاً في رأيي ليس مجرد تغطية البدن كاملاً، بل الحكم أصلاً شد من هذا وهو حجب الأبدان والشخوص، والنصوص التي تذكر سبب النزول تبين أنه أمر خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بيانها.
قلتَ: (فهل قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله}، علة للحجاب؟.يقال: هنا احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون، وألا يكون.
ولو استبعدنا الاحتمال الثاني، فهل القول بأنه علة يلزم نفي العلة الأولى؟.
كلا، بل لا مانع أن يكون للحكم الواحد أكثر من علة، ما دامت متوافقة غير متضادة، كما في قوله تعالى: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا}، فقد ساقت الآية ثلاث علل للحكم.) وبهذا قال بعض العلماء:
1 - قال ابن العربي: " قوله: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله}، وهذا تكرار للعلة، وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام" 3/ 1579 .. قال هذا بعد ذكره العلة الأولى.
2 - قال القرطبي: "هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها، وتأكيد العلل أقوى في الأحكام" 14/ 228 .. كذلك قاله بعد ذكره العلة الأولى.
إذن: فرض قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} علة للحجاب، للتوصل به إلى نفي العلة المذكورة في قوله: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، فرض باطل، غير لازم؛ فلا تعارض بينهما، حتى يلزم من إثبات أحدهما نفي الآخر.
فخرجنا بهذا: أن علة الحكم هو تحصيل طهارة القلب، وعلى هذا أقوال المفسرين.
ولا مانع من إضافة علة أخرى هي: الكف عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم (.
ثم بعد هذا:
- إذا كان هو ظاهر الآية، وكل من يقرأ يفهمه للوهلة الأولى.
- وإذا كان هذا هو قول سائر العلماء من المفسرين، ولم يعرف عن أحد من السابقين أنه أنكرها كعلة.
فينتج من ذلك:
أن محاولة إبطال هذه العلة قول محدث، لم يقله أحد.
فيجب طرحه، وعدم الانشغال به أو الالتفات إليه أصلا. لأنه لا يمكن أن يكون قولا معتبرا، ثم يخفى على جميع هؤلاء العلماء، فلا يشير إليه أحد، حتى يأتي متأخر فيتحدث به. فالأمة لا تجتمع على ضلالة. وكذا الجمهور لا يجتمعون على ضلالة.
أقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والتسديد:
ما هو الحجاب المأمور به في الآية؟
هذا السؤال كان من الواجب على الدكتور تحرير الجواب عليه قبل الكلام عن العلة، لأنه جعل ما فهمه منه أمراً مسلماً، وهو أن الحكم المأمور به في الاية هو تغطية كامل البدن أي ستره باللباس جميعه.
والحقيقة أن هذا موضع نظر وتأمّل، لأنّ ألفاظ النصوص التي ورد فيها سبب نزول هذه الايات، والنصوص التي تحدثت عن حجاب نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلّم تعطينا معنى يزيد عن مجرد تغطية أبدانهنّ باللباس، وقد تتبعت كثيراً من النصوص التي استعملت لفظ الحجاب، فوجدتها تعطي معنى الساتر المنفصل أكثر من دلالتها على معنى اللباس الّذي تستتر به المرأة، ومن ذلك مثلاً:
حديث أنس عند البخاري (4791) قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل (فألقى الحجاب بيني وبينه) فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الآية.
قلت: تأمّل استعماله للفظ الحجاب في سياق بيانه لتطبيق النّبيّ صلى الله عليه وسلّم للآية مباشرة ومع شخص من أكثر الناس مخالطة له وهو خادمه أنس.
¥