و عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس بعدما أنزل الحجاب فقلت لا آذن له حتى أستأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم وما منعك أن تأذني عمك قلت يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فقال ائذني له فإنه عمك تربت يمينك) البخاري (4796)
فتأمّل معي: لو كان المقصود بالحجاب هو اللباس ما كان لعائشة أن تفترض تعارضاً بين إذنها لأخي أبي القعيس وبين الحجاب، فكان لها أن تستر كامل بدنها وتأذن له، فبان أن الحجاب المفروض هو عدم رؤية شخوصهن.
وإلى هذا المعنى (أي اختصاص نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلّم بزيادة على سائر النساء في التستر وهو ما يُسمى بالحجاب أي البعد عن الأنظار وعدم رؤية الرجال لشخوصهنّ أصلاً) أشار عدد من الأئمة:
قال الحافظ: ((قال اِبن بطال: وفيه دليل على أن نساء المؤْمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم , إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار ولما صرف وجه الفضل)).
قال الحافظ: ((َقال القرطبي بعد أن قرر أن أمر سودةَ بالاحتجاب للاحتياط وتوقي الشبهات: ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمر الحجاب في حق أمهات المؤْمنين كما قال (أفعمياوان أنتما) فنهاهما عن رؤْية الأعمى مع قوله لفاطمةَ بنت قيس (اِعتدي عند اِبن أم مكتوم فإنه أعمى) فغلظ الحجاب في حقهن دون غيرهن)).
قال القاضي عياض: فرض الحجاب مما اُختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم , فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين , فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادةٍ ولا غيرها , ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن , وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز. قال الله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب}. وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب , وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن كما جاءَ في حديث حفصة يوم وفاة عمر , ولما توفيت زينب رضي الله عنها جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها. هذا آخر كلام القاضي. وقد نقله النووي مقراً له.
وقال الطحاوي في شرح معاني الاثار في معرض رده على من أجاز للمملوك النظر إلى شعر مولاته: (وكان من الحجة لهم في ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكروا في حديث أم سلمة ـ أي حديث: ((إذا كان لإحداكن مكاتب , فكان عنده ما يؤَدي , فلتحتجب عنه)) ـ لا يدل على ما قال: أهل تلك المقالة , لأنه قد يجوز أن يكون أراد بذلك حجاب أمهات المؤمنين , فإنهن قد كن حجبن عن الناس جميعا , إلا من كان منهم ذو رحم محرم. فكان لا يجوز لأحد أن يراهن أصلا إلا من كان بينهن وبينه رحم محرم , وغيرهن من النساء , لسن كذلك لأنه لا بأس أن ينظر الرجل من المرأة التي لا رحم بينه وبينها , وليست عليه بمحرمة إلى وجهها وكفيها .. فأبيح للناس أن ينظروا إلى ما ليس بمحرم عليهم من النساء إلى وجوههن , وأكفهن , وحرم ذلك عليهم من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم , لما نزلت آية الحجاب , ففضلن بذلك على سائر الناس .. فكن أمهات المؤمنين قد خصصن بالحجاب ما لم يجعل فيه سائر الناس مثلهن)
وفي السنن عن نبهان ـ مكاتب لأم سلمة ـ قال: سمعت أم سلمة تقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكن مكاتب , فكان عنده ما يؤَدي , فلتحتجب عنه رواه أبو داود والترمذي والنسائِي وابن ماجه , وقال الترمذي: حسن صحيح.
فما معنى احتجابهن عن المكاتب؟ قال المباركفوري: (والمعنى أنه لا يدخل عليها) أ. هـ وهذا صحيح وهو الحجاب الذي فرضه الله عليهن خاصة دون سائر النساء.
¥