قال الشافعي: وقد يجوز أن يكون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة - إن كان أمرها بالحجاب من مكاتبها إذا كان عنده ما يؤَدي - على ما عظم الله به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤْمنين وخصهن منه , وفرق بينهن وبين النساء {إن اِتقيتن} ثم تلا الآيات في اِختصاصهن بأن جعل عليهن الحجاب من المؤْمنين , وهن أمهات المؤْمنين , ولم يجعل على اِمرأة سواهن أن تحتجب ممن يحرم عليه نكاحها).
وقال السيوطي في الخصائص: (با اختصاصه صلى الله عليه وسلّم بتحريم رؤية أشخاص أزواجه وسؤالهن مشافهة) ثم نقل عن النووي والرافعي والبغوي قولهم: لا يحل لأحد أن يسألهن إلا من وراء حجاب، وأما غيرهن فيجوز أن يسألهن مشافهة.
ومما مر يتبين والله أعلم أن التفريق بين أمهات المؤمنين وبين سائر النساء في الحجاب المفروض عليهنّ أمر وارد بل هو شائع بين أهل العلم، ومما ذكروه أنّ الحجاب المفروض عليهن هو حجب شخوصهنّ عن الرجال غير المحارم، أمّا ما اعترض به ابن حجر على كلام القاضي فإنّه غير مقبول في الحقيقة لأمرين:
أوّلهما: أنّ الله أذن لهن في حاجتهن وما لابد لهن منه أن يبرزن مع الاحتياط لهن للأوقات والأماكن، ولهذا كن يخرجن في الليل للبراز، وكن يركبن الهوادج عند السفر، بل ما هو أشد من هذا، فقد أخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن عوف قال أرسلني عمر وعثمان بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة التي توفي فيها عمر يحججن فكان عثمان يسير أمامهن فلا يترك أحدا يدنو منهن ولا يراهن إلا من مد البصر وعبد الرحمن بن عوف خلفهن يفعل مثل ذلك وهن في الهوادج وكانا ينزلان بهن في الشعاب فيقيلانهن في الشعب وينزلان في فيء الشعب ولا يتركان أحدا يمر عليهن.
و عن أم معبد بنت خالد بن خليف قالت رأيت عثمان وعبد الرحمن في خلافة عمر حجا بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت على هوادجهن الطيالسة الخضر وهن حجرة من الناس يسير أمامهن بن عفان على راحلته يصيح إذا دنا منهن أحد إليك إليك وابن عوف من ورائهن يفعل مثل ذلك فنزلن بقديد قريبا من منزلي اعتزلن الناس وقد ستروا عليهن الشجر من كل ناحية .. ).
عن المسور بن مخرمة قال ربما رأيت الرجل ينيخ على الطريق لإصلاح رحل أو بعض ما يصلحه من جهازه فيلحقه عثمان وهو أمام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان الطريق سعة أخذ يمين الطريق أو يساره فيبعد عنه وإن لم يجد سعة وقف ناحية حتى يرحل الرجل أو يقضي حاجته وقد رأيته يلقى الناس مقبلين في وجهه من مكة على الطريق فيقول لهم يمنة أو يسرة فينحيهم حتى يكونوا مد البصر حتى يمضين
فهذه الاثار تبين لك شدة الحجاب المفروض عليهن رضي الله عنهن، وهذه أخبار ضعيفة عندي وهي على شرط الدكتور ـ وأكرر ـ لأنها أيضاً روايات تاريخية وليست الوحيدة في المسألة!
وثانياً أنّ القصة الّتي استشهد بها وهي قول عطاء فيها ما يدل على قول القاضي ويرد قول ابن حجر: قال عطاء: ((لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عنك وأبت يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير وهي مجاورة في جوف ثبير قلت وما حجابها قال هي في قبة تركية لها غشاء وما بيننا وبينها غير ذلك ورأيت عليها درعا موردا))
فتأمل كيف وصف طوائف عائشة حجرة: أي مستترة، وليس المقصود متحجبة فليس هذا مما يُلاحظ على امرأة مثل عائشة وإنما الي نبه عليه كونها مستترة عن الرجال بحجاب.
وبين كيف أنهن لا يدخلن البيت حتى يُخرج الرجال منه.
وتقدم وصف طريقة نقلهن إلى مكة في الهوادج، فكيف يصح بعد هذا اعتراض ابن حجر على كلام القاضي عباض ثم وصف الدكتور تقليداً منه لابن حجر كلام القاضي بأنه باطل بلا تحقيق ولا موازنة وإنما مجرد تشث بما يظنه موافقاً لقوله والله المستعان.
وبهذا نرى أن الحكم المنصوص عليه في الاية أخص من وجوب تغطية سائر البدن، بل هو أمر بالحجاب الذي وصفته في مقالي هذا، وبناء عليه يمكن النظر الآن في تعليله بتحصيل الطهارة من عدمه.
وقد قلت ساقاً أن اللفظ في الاية ليس الطهارة وإنّما الأطهرية وبينهما فرق، فإن التشديد في الحجاب ناسب أن يبين الله تعالى الحكمة منه وهو تحصيل الأطهرية لمقام النبي صلى الله عليه وسلّم في أزواجه وأصحابه.
وقد عرفنا أن حال سائر النساء في هذا ليس كحال أزواجه صلى الله عليه وسلّم، ولهذا لا يجب عليهن ذلك، وعليه يكون سياق الآية أصلاً لا يدل من قريب ولا من بعيد على وجوب ستر الوجه على نساء المؤمنين فضلاً عن أن يكون نصاً محكماً!! على ذلك كما ادعى الدكتور حفظه الله.
ولهذا قلت: إ التعليل بحفظ مقام النّبيّ صلى الله عليه وسلّم الّي يتضمن بلاشك الحكمة وهي تحصيل (الأطهرية) هو التعليل الحقيقي لهذا الحكم المغلظ وهو ما يمنع تعديته إلى غير أزواجه صلى الله عليه وسلّم.
¥