ومما سبق يظهر بجلاء أهمية التوثيق في الشريعة الإسلامية سواء منه ما كان بالشهود أو بالكتابة. وإذا كان التوثيق بالشهود سبباً لإشهار الزواج وإعلانه فإن توثيقه بالكتابة سبب ايضاً لإشهاره وإعلانه. ولا مراء في أن هذا التوثيق أدعى في هذا العصر الذي تعقدت فيه المشكلات. وتعددت فيه أسباب النزاع مما يقتضي توثيق العقود بالكتابة، ولا مراء في أن لهذا التوثيق منافع عدة، منها إمكانية حفظ العقد المكتوب مدة طويلة وغير محدودة، ومنها سهولة الرجوع إليه عند النزاع مما لا يتوافر في الشهود، ومن هذه المنافع أيضاً معرفة الأمة لتاريخها وتسلسل أجيالها، وحفظ أنسابها، ناهيك عما يستلزمه تخطيط تنميتها واقتصادها من توثيق زيجاتها.
فالإلزام بتسجيل عقود الزواج هو من "باب السياسة الشرعية" كما يقول الدكتور عبد الفتاح عمرو التي يمكن لولي الأمر إلزام رعيته بها لما يراه في ذلك من مصالح. فالتوثيق لدى المأذون أو الموظف المختص نظام أوجبته اللوائح والقوانين الخاصة بالمحاكم الشرعية، خشية الجحود وحفظاً للحقوق، وحذرت من مخالفته لما له من نتائج خطيرة من النكران.
ويقرر الدكتور محمّد عقلة أن التصور الإسلامي من حيث المبدأ لا يفرض شكلاً من الأشكال لإتمام الزواج، فعقد الزواج شأن سائر العقود يتم بمجرد الإيجاب والقبول، ولا يتوقف وجوده وثبوته على بينة كتابية، بل تكفي البينة الشخصية لإثباته سواء كان ذلك فيما يتعلق بنفس العقد أو آثاره من مهر ونفقة وما إلى ذلك من الحقوق.
غير أن هذه الحقيقة لا تمنع من إحداث تنظيمات شكلية أو إدارية بقصد حماية الزوجية، المحافظة على مصالح العقد، كما لا تتعارض مع سَن قانون تراه الدولة مقيداً بقاعدة التطور، وأخذاً بالأساليب الحديثة في التدوين والتسجيل.
قيمة الإلزام القانوني بتسجيل عقد الزواج:
هذه التراتيب الإدارية التي ألزمت بها قوانين الأحوال الشخصية، ومنها تسجيل عقود الزواج سماها بعض الفقهاء المعاصرين بالشروط القانونية، حيث عرفها الدكتور علي حسب الله بأنها: "شروط يضعها المشرع الوضعي لجلب مصلحة أو دفع مضرة"، ثم يوضح طبيعة هذه الشروط، فيقول "الشرط القانوني ليس شرط صحة ولا نفاذ ولا لزوم، لأن المشرع الوضعي ليس له أن ينشىء حكماً شرعياً دينياً يحل حراماً أو يحرم حلالاً، بل هو شرط يترتب عليه أثر قانوني لا دخل له في الحكم الشرعي الديني".
وإذا كان الزواج العرفي زواجاً صحيحاً استوفى شروطه، فللحاكم المعاقبة على عدم توثيق عقد الزواج كما يقول الشيخ علي الطنطاوي: "هذا الزواج بهذا المعنى زواج صحيح (العقد العرفي)، ولكن للحاكم أن يعاقب فاعله بنوع من العقوبات لأنه خالف أمراً أوجب الله طاعته".
ويقول الشيخ القرضاوي: "في هذه الحالة إذا صدر أمر أو قانون من ولي الأمر الشرعي بإيجاب التوثيق تصبح طاعته لازمة شرعاً لأن الله تعالى قال: (يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرسولَ وأولي الأمر مِنكُم) (النساء:25)، والنبي (ص) قال في الحديث الصحيح المتفق عليه: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، وقال النبي (ص): "إنما الطاعة في المعروف"، فما دام الإنسان يؤمر بمعروف فيجب أن يطيع، فالطاعة هنا لازمة وواجبة".
ثالثاً: الفرق بين النكاح العرفي ونكاح السر:
قد يتداخل النكاح العرفي ونكاح السر تداخلاً كبيراً، بحيث يخفي على بعض أهل العلم تبين الحد الفاصل بينهما، وقد يدخل بعض الباحثين نكاح السر في النكاح العرفي، فيفتح هذا التوجه باب شرّ كبير، من أجل ذلك سيحاول الباحث تفصيل القول في الفارق بين النكاح العرفي ونكاح السرّ في النقاط التالية:
1_ إذا كان النكاح العرفي قد تم بإيجاب من الولي وقبول من الزوج، وشهد عليه شاهدان على الأقل، وجرى الإعلان عنه، فهذا زواج شرعي صحيح وإن لم يسجل في الدوائر الرسمية، ولم تصدر به وثيقة رسمية.
2_ العقد العرفي الذي تمّ بإيجاب وقبول بين الرجل والمرأة من غير ولي ولا شهود ولا إعلان فهو زواج باطل باتفاق أهل العلم، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "نكاح السر الذي يتواصى بكتمانه ولا يشهدون عليه أحداً باطل عند عامة العلماء، وهو من جنس السفاح". ولا يجوز في هذه الحالة تسميته بالزواج العرفي.
¥