وأما تقديم الأرض عليها في قوله (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء يونس 61) وتأخيرها عنها في سبأ فتأمل كيف وقع هذا الترتيب في سبأ في ضمن قول الكفار (لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سبأ 3) كيف قدم السموات هنا لأن الساعة إنما تأتي من قبلها وهي غيب فيها ومن جهتها تبتديء وتنشأ ولهذا قدم صعق أهل السموات على أهل الأرض عندها فقال تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض الزمر 68
وأما تقديم الأرض على السماء في سورة يونس فإنه لما كان السياق سياق تحذير وتهديد للبشر وإعلامهم أنه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقها وجليلها وأنه لا يغيب عنه منها شيء اقتضى ذلك ذكر محلهم وهو الأرض قبل ذكر السماء فتبارك من أودع كلامه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنه كلام الله تعالى وأن مخلوقا لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الحكم أبدا ...
2 - ترتيب الجن والانس
قال السهيلي:
ربما كان ترتب الألفاظ بحسب الخفة والثقل لا بحسب المعنى كقولهم ربيعة ومضر وكان تقديم مضر أولى من جهة الفضل ولكن آثروا الخفة لأنك لو قدمت مضر في اللفظ كثرت الحركات وتوالت فلما أخرت وقف عليها بالسكون
ومن هذا النحو الجن والإنس فإن لفظ الإنس أخف لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وجمامه
وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه قدم الجن على الإنس في الأكثر والأغلب.
تقديم الجن على الإنس في أكثر المواضع في القرآن لأن [ u] الجن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الأبصار قال تعالى (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الصافات 158)
وقال الأعشى
وسخر من جن الملائك شيعة % قياما لديه يعملون بلا أجر
وأما قوله تعالى (لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان- الرحمن 74) وقوله (لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان- الرحمن 39) وقوله (ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا- الجن 5) فإن لفظ الجن ههنا لا يتناول الملائكة بحال لنزاهتهم عن العيوب وأنه لا يتوهم عليهم الكذب ولا سائر الذنوب فلما لم يتناولهم عموم لفظ هذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم.
قال ابن القيم:
فأما تعليلك تقديم ربيعة على مضر ففي غاية الحسن وهذا الإسمان لتلازمهما في الغالب صارا كاسم واحد فحسن فيهما ما ذكرت .. وأما ما ذكرت في تقديم الجن على الإنس من شرف الجن فمستدرك عليك .. فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة وقد ذكرناها في غير هذا الموضع تفضيل الإنس على الملائكة.
وأما قولك إن الملائكة أفضل أو هم أشرف فالمقدمتان ممنوعتان أما الأول فلأن أصل الملائكة ومادتهم التي خلقوا منها هي النور كما ثبت ذلك مرفوعا عن النبي في صحيح مسلم .. وأما الجان فمادتهم النار بنص القرآن ولا يصح التفريق بين الجن والجان لغةولاشرعاولاعقلا. .
وأما المقدمة الثانية وهي كون الملائكة خيرا وأشرف من الإنس فهي المسألة المشهورة وهي تفضيل الملائكة أو البشر والجمهور على تفضيل البشر والذين فضلوا الملائكة هم المعتزلة والفلاسفة وطائفة ممن عداهم بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا أنه تقديم بالزمان لقوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم- الحجر 26 27)
وأما تقديم الإنس على الجن في قوله (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان- الرحمن 56) فلحكمة أخرى سوى ما ذكرت وهو أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الإثبات فيرد النفي عليه وعلم النفوس بطمث الإنس ونفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف فجاء النفي على مقتضى ذلك وكان تقديم الإنس في هذا النفي أهم
وأما قوله (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا- الجن 5) فهذا يعرف سره من السياق فإن هذا حكاية كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن كما قال تعالى (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا الجن 1) الآيات
وكان القرآن أول ما خوطب به الإنس ونزل على نبيهم وهم أول من بدأ بالتصديق والتكذيب قبل الجن فجاء قول مؤمني الجن وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا بتقديم الإنس لتقدمهم في الخطاب بالقرآن وتقديمهم في التصديق والتكذيب.
¥