وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الزَّرْعَ النَّابِتَ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ طَاهِرٌ , فَغَايَةُ شَعْرِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَابِتًا فِي مَنْبَتٍ نَجَسٍ: كَالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ , فَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ طَاهِرًا , فَالشَّعْرُ أَوْلَى بِالطَّهَارَةِ ; لِأَنَّ الزَّرْعَ فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ , بِخِلَافِ الشَّعْرِ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْيُبُوسَةِ وَالْجُمُودِ مَا يَمْنَعُ ظُهُورَ ذَلِكَ. فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: كَابْنِ عَقِيلٍ , وَغَيْرِهِ: إنَّ الزَّرْعَ طَاهِرٌ , فَالشَّعْرُ أَوْلَى , وَمَنْ قَالَ: إنَّ الزَّرْعَ نَجَسٌ , فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَهُ. فَإِنَّ الزَّرْعَ يُلْحَقُ بِالْجَلَّالَةِ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا , فَإِذَا حُبِسَتْ حَتَّى تَطِيبَ كَانَتْ حَلَالًا: بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهَا قَبْلَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي لَبَنِهَا , وَبِيضِهَا , وَعِرْقِهَا , فَيَظْهَرُ نَتْنُ النَّجَاسَةِ وَخَبَثُهَا , فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ طَاهِرَةً , فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا , وَالشَّعْرُ لَا يَظْهَرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ النَّجَاسَةِ أَصْلًا , فَلَمْ يَكُنْ لِتَنْجِيسِهِ مَعْنًى , وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ فِي شُعُورِ الْمَيْتَةِ , كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكُلُّ حَيَوَانٍ قِيلَ بِنَجَاسَتِهِ , فَالْكَلَامُ فِي شَعْرِهِ وَرِيشِهِ كَالْكَلَامِ فِي شَعْرِ الْكَلْبِ , فَإِذَا قِيلَ بِنَجَاسَةِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ , وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ , إلَّا الْهِرَّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: عُلَمَاءُ أَهْلِ الْعِرَاقِ , وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي رِيشِ ذَلِكَ وَشَعْرِهِ فِيهِ هَذَا النِّزَاعُ , هَلْ هُوَ نَجَسٌ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. إحْدَاهُمَا: إنَّهُ طَاهِرٌ , وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: كَأَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: إنَّهُ نَجَسٌ , كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَالْقَوْلُ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا {فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي اقْتِنَاءِ كَلْبِ الصَّيْدِ , وَالْمَاشِيَةِ , وَالْحَرْثِ} , وَلَا بُدَّ لِمَنْ اقْتَنَاهَا أَنْ يُصِيبَهُ رُطُوبَةُ شُعُورِهَا , كَمَا يُصِيبُهُمْ رُطُوبَةُ الْبَغْلِ , وَالْحِمَارِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَالْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ شُعُورِهَا , وَالْحَالُ هَذِهِ مِنْ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ عَنْ الْأُمَّةِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ إذَا أَصَابَ الصَّيْدَ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِغَسْلِ ذَلِكَ , فَقَدْ عَفَا عَنْ الْكَلْبِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ , وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَاعَى مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ وَحَاجَتَهُمْ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.))