وهذه الأوراق فيها بحث هذا الموضوع: تأصيلا له، ومناقشة لأدلة المجيزين، وكان الوصول إلى الحق قصدي في كتابتها.
كما قصدت السعي في الذب عن أعراض علماء أعلام تناولتهم ألسنة وأقلام بغمز ولمز لفتواهم بعدم الجواز، مع أنهم –دون شك- أسعد بالصواب.
أسأل الله أن يجعل هذا المكتوب مسددا نافعا، كما أسأله أن يوفق ولاة أمرنا وعلماءنا إلى ما يحب، وأن يأخذ بأيديهم إلى ما يرضيه، والله المستعان.
المسألة الأولى: محل السعي.
إن مما لا تختلف فيه كلمة المسلمين أن محل السعي شرعا: ما بين الصفا والمروة، ودليل ذلك من كتاب الله قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
ودليله من السنة: كونه المحل الذي سعى فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في السنة عشرات الأحاديث –في الصحيحين وغيرهما- فيها التنصيص على أنه عليه الصلاة والسلام سعى بين الصفا والمروة، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم) أخرجه مسلم.
وعليه فمن سعى خارجا عما بين الصفا والمروة لم يكن ممتثلا للأمر الشرعي؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أخرجه مسلم.
ولأجل هذا فقد نص جمع من الفقهاء على أن من شروط صحة السعي أن يكون في محله بين الصفا والمروة.
قال الرملي في نهاية المحتاج 3/ 291: (ويشترط [أي في السعي] قطع المسافة بين الصفا والمروة كل مرة، ولا بد أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن). ثم نقل إجماع العلماء وغيرهم من وقت الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك) إلى زمانه (توفي في 1004هـ) على أن السعي إنما هو في المسعى المعروف.
وانظر أيضا: حاشية البجيرمي على الخطيب 2/ 375، وغيرها من كتب الشافعية.
وأنبه هنا إلى أن الوادي في كلام الرملي وغيره من العلماء في هذا المقام يراد به المسيل الذي بين الصفا والمروة، قال ابن جبير في رحلته 88: (وما بين الصفا والمروة مسيل). وليس هذا هو الوادي الآخر الممتد شرقا وغربا الذي يمر به في موضع الهرولة.
ومن كلام العلماء في الاشتراط المذكور قول الحطاب المالكي في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 4/ 118: (وللسعي شروط ... ومنها كونه بين الصفا والمروة؛ فلو سعى في غير ذلك المحل بأن دار من سوق الليل أو نزل من الصفا فدخل المسجد لم يصح سعيه).
وفي المسلك المتقسط في المنسك المتوسط (192) لملا علي القاري –مع حاشيته إرشاد الساري- أثناء الكلام عن شروط السعي؛ ذكر في الشرط الأول: ((كينونته بين الصفا والمروة) أي بأن لا ينحرف عنهما إلى أطرافهما).
وهذا الاشتراط لم تخل منه كتب الفقه المعاصرة أيضا؛ ففي فقه السنة لسيد سابق 1/ 639 أثناء الكلام عن شروط السعي: (وأن يكون السعي في المسعى؛ وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة).
وهذا الحكم قد توارد على تقريره كثير من أهل العلم.
قال النووي في المجموع 8/ 102: ((فرع) قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي؛ فلو مرّ وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه؛ لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف.
قال أبو علي البندنيجى في كتابه الجامع: موضع السعي بطن الوادي.
قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئا يسيرا أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز.
وكذا قال الدارمي: إن التوى في السعي يسيرا جاز، وان دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا، والله أعلم).
ونقل قول الشافعي هذا غير واحد، منهم: الروياني في بحر المذهب 5/ 173، والرملي في نهاية المحتاج 3/ 291 وغيرهم.
على أن من الشافعية من استشكل جواز هذا عن الشافعي وتأوله بأنه أراد الالتواء الذي لا يخرج عن حدود المسعى، كما تجده في تحفة المحتاج وحواشي الشرواني وغيرها من كتب الشافعية.
وقال النووي –أيضا- في الإيضاح في مناسك الحج 290 –مع حاشية الهيتمي-: ( ... فلو أنه لما عاد من المروة عدل عن موضع السعي وجعل طريقه في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا أيضا لم يصح). إذن فللسعي موضعه الواضح المعلوم.
¥