ومن تقرير العلماء لهذا الحكم أيضا: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة 2/ 599: (لو سعى في مسامتة المسعى وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه).
وقول القطب الحنفي في كتابه الإعلام 103 –نقلا عن تحصيل المرام 1/ 342 - : (السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله تعالى علينا، ولا يجوز العدول عنه، ولا تُؤدى هذه العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى فيه صلى الله عليه وسلم).
وقول العلامة الشنقيطي في أضواء البيان 5/ 253: (اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو كان يمر من وراء المسعى حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه؛ وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه.
وعن الشافعي في القديم: أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه. والظاهر أن التحقيق خلافه، وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه).
المسألة الثانية: تحديد المسعى.
قد تقرر في القرآن الكريم أن الصفا والمروة من شعائر الله سبحانه، قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أي من أعلام دينه الظاهرة التي تعبّد بها عباده.
وهذا الموضع معروف بيّن عند المسلمين كافة لا يختلفون فيه، وليس لهم –عبر تاريخهم- مكان يسعون فيه سواه.
يقول أبو المعالي الجويني في نهاية المطلب 4/ 304: (ومكان السعي معروف لا يُتعدى).
ويقول ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح 5/ 475: (والمسعى هو المكان المعروف اليوم؛ لإجماع السلف والخلف عليه كابرا عن كابر).
ويقول الفاسي في كتابه شفاء الغرام 1/ 521: (وما حُفظ عن أحد منهم [أي أهل العلم] إنكارٌ لذلك [أي السعي في محل السعي المعروف] ولا أنه سعى في غير المسعى اليوم).
ويقول مؤرخ مكة محمد طاهر الكردي في كتابه التاريخ القويم 5/ 363 –أثناء كلامه عن اختلاف أوضاع الناس في السعي سهولة وصعوبة منذ القدم وإلى العصر الحاضر-: (موضع السعي هو هو؛ لم يتغير ولم يتبدل ولم ينقص ولم يزد).
ومع كون هذا المشعر العظيم معلوما ظاهرا للناس قد جرى تواترهم العملي على تعيينه - فإن كثيرا من العلماء قد عُنوا بتحديده؛ سواء أكانوا من علماء الفقه أو التفسير أو التاريخ أو من أصحاب الرحلات.
ويمكن استخلاص تحديد المسعى في كلام العلماء من جهتين:
الأولى: تحديد عرض المسعى.
والثانية: تحديد الصفا والمروة.
أما عن الأولى: فإن من العلماء من ذكر حد المسعى إجمالا؛ وهو عرض الوادي –كما سبق النقل من المجموع للنووي – وهذا الوادي كان موجودا قديما، وهو محل السعي.
غير أن آخرين من أهل العلم كانوا أكثر تدقيقا؛ فقد حددوا عرض المسعى بالذراع، وأقدم من وقفت عليه قد اعتنى بهذا الأمر: أبو الوليد الأزرقي (قيل إنه توفي في 223هـ، وقيل 250هـ، وقيل غير ذلك)؛ فإنه ذكر في أخبار مكة 2/ 119 أن عرض المسعى –فيما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي على دار العباس- خمسة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع.
وعلى القول بأن الذراع 46.2 سم (انظر: معجم لغة الفقهاء 420)؛ فيكون العرض إذن: ستة عشر مترا ونصفا تقريبا، وعلى القول بأن الذراع 48 سم –كما في تاريخ عمارة المسجد الحرام لباسلامة-فيكون عرض المسعى: سبعة عشر مترا تقريبا. وإذا كان المقصود بالذراع الذراع الهاشمية فإنها أكبر من ذلك إذ تبلغ (64 سم) (انظر: المعجم الوسيط 311).
ومن الكتب التي نصت عليه أيضا: كتاب: المناسك وطرق الحج، فقد جاء فيه ص502: (وذرع المسعى من المسجد الحرام إلى دار العباس: اثنان وثلاثون ذراعا).
وبناء على هذا التحديد يكون عرضه: أقل من خمسة عشر مترا بقليل أو أكثر بقليل؛ بحسب الاختلاف في طول الذراع.
وقريب من هذا التحديد ما جاء عند الفاسي في شفاء الغرام (1/ 519) إذ جعل المسافة بين باب العباس إلى دار العباس: إحدى وثلاثين ذراعا وخمسة أسباع ذراع. وأما من العلم الذي بالمنارة المعروفة بمنارة باب علي إلى الميل المقابل له في الدار المعروفة بدار سلمة فقد ذكر أنه سبعة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع وسدس سبع ذراع.
¥