مهما يكن من شيء؛ لقد تأملت تلك التي سميت شهادات؛ وكان مما لاحظته: أن أكبرهم كان عمره سنة التوسعة (1375هـ) ستة وعشرين عاما، وأصغرهم كان عمره أربعة عشر عاما!
أيضا: أن ثلاثة من السبعة توقفوا ولم يتذكروا شيئا يتعلق بامتداد المروة شرقا، واثنان منهم لم يتذكرا شيئا يتعلق بالصفا، وثالث لم يذكر شيئا واضحا يتعلق به.
أيضا: أن الشهادة التي أدلوا بها لم تكن متفقة؛ فمنهم من يذكر أن الجبل كان ممتدا ولا يذكر تحديدا منضبطا، والذين ذكروا التحديد المنضبط مختلفون؛ فأحدهم يذكر أن الصفا يمتد خمسة وثلاثين مترا، وآخر يقول: يمتد خمسين مترا! ولم تتفق شهادة اثنين منهم على تحديد واحد.
فهل هذه الشهادات غير المتفقة يمكن أن تعارض تلك البينات القوية الكثيرة التي سبق إيرادها؟
هل شهادة أحدهم –كما هو مدون في الشهادة- حين لم يتذكر شيئا يتعلق بامتداد الصفا أو المروة شرقا وإنما شهد بامتداد المروة شمالا! هل هذه شهادة يُعتمد عليها في توسعة المسعى شرقا! بل ويُشاد بها وتُذكر في كل محفل –بل وعلى لسان بعض المنتسبين إلى العلم- وإذا قيل ما الدليل؟ قيل: شهادة العدول الثقات!
على أي شيء كانت الشهادة؟ وبأي دليل تحشر ضمن شهادات الشهود في قضية تعبدية تتعلق بالمسلمين جميعا؟
هل شهادة هؤلاء الشهود وثلاثة منهم كانوا دون العشرين –بل وأحدهم ربما لم يكن بالغا- وأكبرهم كان عمره ستة وعشرين يصح أن تقدم على شهادة وتحديد أهل العلم والسن والخبرة؟
إذا كان بعض هؤلاء الشهود –كما هو مدون في الشهادة- يشهد على رؤية الصفا ولا يتذكر شيئا عن المروة والعكس – مع أن بين الجبلين نحو أربعمائة متر فقط- فهل هؤلاء ممن يوثق بحافظتهم ويعتمد عليهم في هذا الأمر الجلل؟
هل تبرأ الذمة بمثل هذه الشهادات؟
ثامنا: لقد وصف إبراهيم باشا في مرآة الحرمين –ونقل هذا عنه ووافقه وأكده المؤرخ حسين باسلامة في تاريخ عمارة المسجد الحرام (301 - 303) - وصف الصفا –المعروف عند المسلمين كافة- بأنه محاط من جميع جهاته بجدار يفصله عن جبل أبي قبيس إلا من الجهة الشمالية التي منها المرقى إليه، والأمر لا يحتاج إلى شهادة؛ لأن صورة ذلك الجدار المحيط موجودة واضحة –انظرها في التاريخ القويم للكردي (5/ 344) - فليت شعري كيف رآه هؤلاء الشهود –مع هذا- جبلا كبيرا ممتدا؟
الأمر الثاني: أن القول بأن الصفا والمروة جبلان كبيران ممتدان وأن لهما أكتافا إلى آخر ما قيل فيما نُقل في تلك الشهادات، وفي بعض الأبحاث المنشورة التي تناولت هذا الموضوع – غير صحيح؛ وكلام العلماء السابقين واللاحقين ليس فيه حرف واحد يدل على صحته، هذا أولا.
وثانيا: أن كلام العلماء السابقين قد تواتر بأن الصفا والمروة جبلان صغيران أو جبيلان أو حجران أو نحو ذلك من الألفاظ المبينة أنهما بخلاف ما أثير مؤخرا من كبرهما.
وقد تتبعت شيئا من كلام العلماء في هذا الموضوع فظهر ذلك ظهورا واضحا.
ويمكن أن ألخص كلام العلماء في هذه المسألة وأرتبه فيما يأتي:
أولا: وصفهما بأنهما جبلان صغيران.
قال ابن جزي في تفسيره (التسهيل) 65 في تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة): (جبلان صغيران بمكة).
وقال الزبيدي في تاج العروس 38/ 430: (والصفا من مشاعر مكة شرفها الله تعالى، وهو جبل صغير بِلَحْف جبل أبى قبيس) أي بأصله.
وبمثله قال: أحمد عبد الغفور عطار في كتابه: حجة النبي عليه الصلاة والسلام 122.
ثانيا: وصفهما بأنهما جُبيلان.
في المحرر الوجيز لابن عاشور 2/ 35: (الصفا والمروة: جُبَيلان بمكة).
وبمثله قال أحمد عبد الغفور عطار عن المروة 122.
ثالثا: وصفهما بأنهما حجران.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3/ 501: (وفي كتاب مكة لعمر بن شبة بإسناد قوي عن مجاهد في هذه الآية: قال: قالت الأنصار: إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية؛ فنزلت) أي الآية: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية.
وفي هذا يقول التجيبي في رحلته –مستفاد الرحلة والاغتراب- 227: (والصفا حجرٌ أزرق عظيم قد بني عليه درجات). ثم وصف المروة أيضا بأنها حجر عظيم. وبمثله قال العمري في مسالك الأبصار –نقلا عن باسلامة 292 - : (أما الصفا فحجرٌ أزرق عظيم في أصل جبل أبي قبيس) ثم وصف المروة –أيضا- بأنها حجر عظيم.
وبمثله قال الإصطخري في المسالك والممالك عن المروة: (والمروة حجرٌ من جبل قعيقعان).
¥