تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

7. وليس كل ثوب رخيص الثمن يكون لبسه من الزهد، فأهل العلم والزهد لم يتعارض زهدهم مع اللباس الجيد الرفيع، ومن نظر للزهد على أنه في الثياب ـ فقط ـ فهو مخطئ، فترى الرجل يتمتع بأنواع الفرش في بيته والسيارات والمأكولات والمشروبات، ويحصر زهده في ثوبه ونعله! ولم يكن هذا هدي سلف هذه الأمة من العُبَّاد والزهَّاد والعلماء.

قال القرطبي – رحمه الله -:

وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم كان يصلي فيها، وكان مالك بن دينار يلبس الثياب العدنية الجياد، وكان ثوب أحمد بن حنبل يُشترى بنحو الدينار.

أين هذا ممن يرغَب عنه، ويؤثر لباس الخشن من الكتان والصوف من الثياب!، ويقول: " ولباس التقوى ذلك خير " هيهات! أتَرى مَن ذكرنا تركوا لباس التقوى، لا والله! بل هم أهل التقوى، وأولو المعرفة والنُّهى، وغيرهم أهل دعوى، وقلوبهم خالية من التقوى.

" تفسير القرطبي " (7/ 196).

8. فإن قلتَ إن هذا من جهاد النفس! وإن أفعالنا إنما تكون لله لا للخلق!: فالجواب:

قال القرطبي – رحمه الله -:

إن قال قائل: تجويد اللباس هوى النفس، وقد أُمرنا بمجاهدتها، وتزينٌ للخلْق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا لله لا للخلق!.

فالجواب:

ليس كل ما تهواه النفس يُذم، وليس كل ما يُتزين به للناس يكره، وإنما يُنهى عن ذلك إذا كان الشرع قد نهى عنه، أو على وجه الرياء في باب الدِّين.

فإن الإنسان يجب أن يُرى جميلاً، وذلك حظ للنفس لا يلام فيه، ولهذا يسرِّح شعرَه، ويَنظر في المرآة، ويسوِّي عمامته، ويلبس بطانة الثوب الخشنة إلى داخل، وظهارته الحسنة إلى خارج، وليس في شيء من هذا ما يكره، ولا يذم.

" تفسير القرطبي " (7/ 197).

9. اللباس غالي الثمن يكون – غالباً – أفضل للبدن، وأطول حياةً، هكذا الأمر بالنسبة للنعل، فإنه يكون أكثر راحة للقدمين، ويعمِّر طويلاً، فحرص المسلم على راحته وبذل الثمن المرتفع من أجل ذلك: لا يحرَّج عليه فيه.

10. وانظر أخي الفاضل لقلبك وتفقد أحوالك من حيث الأوامر والنواهي، وإياك أن تجعل ميزانك في قربك من ربك تعالى: قدَم ثيابك وترقيعها، ولذا كان بكر بن عبد الله المزني رحمه الله يقول: البسوا ثياب الملوك، وأميتوا قلوبكم بالخشية.

وقد ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول:

أَجِدِ الثيابَ إذا اكتسيتَ فإنَّها ... زين الرجال بها تُعزُّ وتُكرم

ودع التواضع في الثياب تخشعا ... فالله يعلم ما تَجنُّ وتَكتُم

فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة ... عند الإله وأنت عبد مجرم

وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن ... تخشى الإله وتتقي ما يحرم

وعلَّق عليها ابن كثير بقوله:

وهذا كما جاء في الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ثيابكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) – رواه مسلم -، وقال الثوري: " ليس الزهد في الدنيا بلبس العبا، ولا بأكل الخشن، إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل ".

" البداية والنهاية " (8/ 11).

والخلاصة:

أن الذي ينبغي للمرء من اللباس هو ما يناسب حاله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ)؛ فمن لبس رفيع الثياب: إظهارا لنعمة الله عليه، وتمتعا بما يباح له من الطيبات، من غير إسراف ولا مخيلة، فله ذلك، ولا ينقص من قدره ولا ورعه شيئا، بل يؤجر ـ إن شاء الله ـ على قصده الحسن.

ومن ترك رفيع الثياب، تواضعا واستكانة لله تعالى، فهو أمر حسن، لكن على ألا يخرج من ذلك إلى شيء من الشهرة، أو يحرم على نفسه ـ أو غيره ـ شيئا من الطيبات، أو يفعل ذلك على جهة الالتزام المطلق، مهما كانت حاله.

وَسُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " عَنْ الْمُتَنَزِّهِ عَنْ الْأَقْمِشَةِ الثَّمِينَةِ مِثْلِ الْحَرِيرِ وَالْكَتَّانِ الْمُتَغَالَى فِي تَحْسِينِهِ وَمَا نَاسَبَهَا: هَلْ فِي تَرْكِ ذَلِكَ أَجْرٌ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْحَرِيرِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ ...

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير