تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال الراوي: فردَّدَ الحسن هذا الكلام غير مرة. فوالله مازال كذلك حتى مات موتاً كيساً" (3)، فهذه القصة أقرب إلى ضرب الأمثال منها إلى رواية قصة واقعية، لانعدام العناصر الحقيقية للأحداث من الشخصيات والزمان والمكان، وإسناده الفعل إلى مجهول، وتركيزه على الحدث المجرد والعبرة منه، وهي الاستعداد للموت الذي يأتي فجأة، والتهيؤ له بالعمل الصالح.

ففي القصة يأتي خبر موت (أخ) إلى (رجل) من المسلمين بصيغة النكرة فيتأثر بذلك ويعد نفسه للموت، ويتكرر الحدث بالطريقة نفسها، ليعطي الثمرة نفسها من حصول الموعظة والجد والاجتهاد بالعمل الصالح. ويتدخل الراوي ليوضح لنا أن الرجل من المسلمين كان الحسن البصري نفسه، وكان الأخ الذي يموت هو أي أحد من المسلمين، حتى أفضى به الأمر أن يموت موتاً كيِّساً، أي: حسناً.

وما كان للحسن البصري أن يقول للناس: إنه يعني نفسه بذلك الذي يأخذ العبرة، فيزكي نفسه، فيقع في دائرة المحظور في الوعظ! وهذا أبلغ في الموعظة. والتكرار في القصة عامل آخر من عوامل التأثير بأسلوب الإطناب، يجدد به التأثير في المتلقي ويجعله في دائرة التذكر الدائم.

لا حياة لمن تنادي:

ونجد لدى الحسن البصري أسلوب المثال الحقيقي بدلاً من ضرب المثل بالمجهول، فقد "رأى شيخاً في جنازة، فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن: ياشيخ، أسألك بربك أتظن أن هذا الميت يود أن يرجع إلى الدنيا فيتزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة؟ فقال الشيخ: اللهم نعم. فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كهذا الميت؟! ثم انصرف وهو يقول: أي موعظة؟! ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة! ولكن لا حياة لمن تنادي". (4)، فالحكاية عن الغائب في النص السابق حكاية حاضرة في هذا النص يعتمد الحوار القصير المكثف، ويتخذ من التشبيه التمثيلي بين حالة حاضرة، وحالة ماضية، وحالة مستقبلة أسلوباً، ويدخل أسلوب القسم لتأكيد المعنى واستجماع النفس التي ما تزال تلهو وتغفل، ثم يلجأ إلى أسلوب التهويل (أي موعظة)، والتعجب (ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة)، ثم التيئيس الذي يهدف إلى التخويف من حالة الغفلة العامة عند الإنسان (ولكن لا حياة لمن تنادي). والجملة الأخيرة في لحظتها تحمل معنى تشبيه الأحياء بالأموات فيما يظهر لعدم انتفاعهم بالموعظة، والأموات بالأحياء لتمنيهم العودة إلى الحياة لاستدراك ما فات، ولكن هيهات هيهات!!

قيام يفترشون وجوههم:

وقد يجعل القصة رواية مباشرة منه –رحمه الله- إذ يقول: " والله لقد أدركت أقواماً، وصَحِبتُ طوائف منهم، ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أَقْبَل، ولا يأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت أهون في أعينهم من هذا التراب. كان أحدهم يعيش خمسين سنة لم يطو له ثوب قط، ولا نصب له قدر، ولا جعل بينه وبين الأرض شيئاً، ولا أمر في بيته بصنعة طعام قط. فإذا كان الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، وكانوا إذا عملوا الحسنة، دأبوا في شكرها، وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله أن يغفرها. وإنكم أصبحتم في أجل منقوص، والعمل محفوظ، والموت والله في رقابكم، والنار بين أيديكم، فتوقعوا قضاء الله في كل يوم وليلة". (5)

في هذا النص جملة من الأساليب الأدبية والبلاغية، فقد عمد إلى الرواية المشاهدة للقصة، وذلك أوقع من الخبر المنقول لثقة السامع بصدق المتحدث، وليس الخبر كالمعاينة! وإذ استوثق من تصديقهم لما يخبر أطنب في وصف من يخبر عنهم، ويعظ بحالهم، مستخدماً أسلوب المقابلة القائمة على التضاد في موقفهم من الدنيا، فإذا كان أكثر الناس يفرحون إذا هي أقبلت، ويحزنون إذا هي أدبرت، فإن هؤلاء القوم المشمرون بالجد لا يأبهون بالدنيا في حالي إقبالها وإدبارها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير