تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويشبه الدنيا في هوانها بالتراب، بل هي أهون، وينتقل بعد ذلك من مظاهر الوصف المعنوي إلى مظاهر الوصف الحسي الدال على الحالة المعنوية التي هم فيها، فـ"لم يطو له ثوب" كناية عن عدم التنعم باللباس، "ولا نصب له قدر، ولا أمر في بيته بصنعة طعام" كناية عن عدم التنعم بالطعام، " ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا" كناية عن عدم التنعم بالنوم، و"قيام على أطرافهم يفترشون وجوههم" كناية عن التعبد عامة وبالسجود خاصة، و "يناجون ربهم في فكاك رقابهم" كناية عن تذللهم في الدعاء لربهم، وتشبيه لعبودية المخلوق للخالق بعبودية المخلوق للمخلوق في مجتمع كان لعبودية الرق فيه شأن، يعايشه الناس بأنفسهم.

ومثل هذه الأساليب التصويرية التي تحفز الخيال بالحسي إلى المعنوي، وتكشف المعنى في أكثر من صورة، تؤثر في مراكز الاستقبال في القلب والعقل تأثيراً محموداً، فإذا لم يحمله على الاقتناع المباشر حمله على التفكير، وإذا لم يدفعه إلى العمل الفوري هيأه للتحرك إلى العمل في مرة قادمة.

هل رأيت فقيهًا بعينيك؟!:

ونجد في مواعظ الحسن البصري أساليب علم المعاني تخدم هدفه، في إيصال موعظته لسامعيه، ويحشد في الجملة الواحدة أكثر من أسلوب.

فعن عمران بن القصير قال: "سألت الحسن عن شيء، فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: وهل رأيت فقيها بعينيك!؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، المداوم على عبادة ربه عز وجل" (6).

فالحسن يستنكر على عمران بن القصير قوله:"إن الفقهاء يقولون كذا وكذا" ذلك أن الفقه غير الكلام عند العلماء الربانيين، فصاغ عبارته بأسلوب الاستفهام الإنكاري، الذي يتضمن النفي. ثم يتابع إيضاحه لما استنكره فيعرف الفقيه بأسلوب القصر بإنما و بتعريف المبتدأ والخبر بأل التعريف "إنما الفقيه الزاهد في الدنيا"وأسلوب القصر بأداة واحدة يفيد التوكيد، وبأداتين يفيد زيادة التوكيد، فهو نفى المعنى الشائع للفقيه أولاً ثم أكَّدَ المعنى الذي يريده بأداتين من أساليب القصر، وأضاف للجملة الأولى جملة ثانية بأسلوب الإطناب، لوجود علاقة عموم وخصوص بين الزهد في الدنيا والمداومة على عبادة الله سبحانه، وجاء بكلمة "ربه" ليفيد معنى قرب العابد من المعبود، المتضمن إشارة الإقرار بالربوبية المستدعية للشكر من المربوب.

بئس الرفيقان الدرهم والدينار:

وفي حملته على الدنيا ومغرياتها، وتحذير الناس منها بشكل دائم يلفت نظر مستمعيه إلى الدرهم والدينار اللذين يفتنان الناس ويغريانهم، يقول حزم بن أبي حزم: "سمعت الحسن يقول: بئس الرفيقان الدرهم والدينار، لا ينفعانك حيث يفارقانك" (7).

وذلك أن الإنسان يحب أن يكون درهمه وديناره معه حيث يذهب وكأنهما رفيقان، والمتوقع من الرفيق أن ينفع عند الحاجة، فإذا تخلى عن مرافقه أشد ما يكون محتاجاً إليه فبئس الرفيق هو إذن. وهكذا الدرهم والدينار في نظر الحسن البصري لا ينفعانك حيث يفارقانك، والمعنى يحتمل أن يكون لا ينفعانك لأنهما يفارقانك، أو لا ينفعانك عندما يفارقانك فتذهب إلى الآخرة ويبقيان في الدنيا لغيرك، وبين المعنيين صلة.

ما يصنع بالزرع إذا طاب؟!:

ويحرص الحسن على الاستفادة من كل سَانحَةٍ للموعظة، فقد حضر يوماً مجلساً جمع شيوخاً وشباباً فقال: معشر الشيوخ، ما يصنع بالزرع إّذا طاب؟ قالوا: يحصد. ثم التفت فقال: معشر الأحداث، كم من زرع لم يبلغ، قد أدركته الآفة فأهلكته، وأتت عليه الجائحة فأتلفته، ثم بكى، وتلا:?? وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ? [إبراهيم:25] (8)، فقد جعل من مادة الزرع وسيلة لإيصال المعنى بأبلغ صورة محسوسة، بما يُسمى التشبيه التمثيلي، وكثيراً ما يضرب القرآن الكريم، مثل الحياة الدنيا بالزرع الذي ينمو صغيراً ثم يشتد سُوقه، ثم يصفر فيستحصد. وهكذا خاطب الشيوخ الذين عاشوا أعمارهم بجملة واحدة فقال: ما يصنع بالزرع إذا طاب؟ أي: إذا بلغ أَوَان الحصاد فقالوا: يحصد! وهو الموت بالنسبة للإنسان. ثم التفت إلى الشباب الذين تضطرم الآمال في قلوبهم المقبلة على الحياة، ليوقظهم من غفلة الشباب واغترارهم بطول الأمل، ليقول لهم: كم من زَرْعٍ لم يبلغ (أوان الحصاد) قد أدركته الآفة (وهو أخضر) فأهلكته، وأتت عليه الجائحة (أي المصائب) فأتلفته.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير