والحسن البصري لا يكتفي بنقل الصورة الواعظة لغيره وينسى نفسه، بل يتفاعل أشد التفاعل بما يقول، كما هنا، ثم بكى وتلا: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم:25] وهو ما يسميه نقاد الكلمة الأدبية صدق التجربة، وفيه سر التأثير في المتلقي.
أمانيها كاذبة وآمالها باطلة:
ومع أن مواعظ الحسن البصري مقاطع قصيرة أو جمل معدودة، فإن له مواعظ طويلة سواء في مجالس خاصة اتخذت أسلوب المشافهة، أو في المراسلات التي كانت تتم بينه وبين بعض الولاة والخلفاء، فمن الخلفاء والولاة الذين وعظهم الحسن عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) (9) إذ كتب إليه رسالة طويلة في ذم الدنيا، ومثلها في الطول موعظة وعظه بها أصحابه (10). ومثلها ما روي في موعظته المشهورة لعمر بن هُبيرة والي العراق، في مجلس حضر فيه هو والشعبي، خوَّفَ فيه الوالي من طاعة الخليفة في معصية الله تعالى (11).
ووعظَ النَّضْر بن عمرو والي البصرة (12)، وعَدِي بن أرطأة (والي البصرة) (13)، والحجَّاج في أكثر من مناسبة (14)، كما أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كاتبه عدة مرات يطلب منه الموعظة.
والميزة في هذه المواعظ أنها طويلة مكتوبة أو مشافهة، ويظهر فيها التصرف بالأساليب الأدبية والبلاغية أكثر من تلك المقاطع القصيرة. "،ف مع فقرة من رسالته عن الدنيا إلى عمر بن عبد العزيز (15) يقول فيها: "واعلم يا أمير المؤمنين أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وعيشها نكد، وتاركها موفق، والمتمسك بها هالك غرق .. "،.
وقد وصف عمر بن عبد العزيز هذه الرسالة قائلاً: "وصلت مواعظك النافعة فاشتفيت بها، وقد وصفت الدنيا بصفتها، والعاقل من كان فيها على وجل، فكأن كل من كتب عليه الموت من أهلها قد مات".
فقال الحسن يصف استجابة أمير المؤمنين للموعظة: "لله در أمير المؤمنين من قائل حقاً، وقابل وعظاً، لقد أعظم الله جل ثناؤه بولايته المنة، ورحم بسلطانه الأمة، وجعله بركة ورحمة" (16).
فهذه الرسائل الطويلة تظهر فيها الأساليب البديعية اللفظية من غير تكلف ولا إكثار، تخدم المعنى، وتجعله أدنى إلى القبول لتقديمه في ثوب من اللفظ الجميل الذي يستند إلى المجانسة والسجع والمقابلة والطباق بالتماثل والتضاد.
يسر المرء ما كان قدم من تقى:
وكان الحسن البصري يعنى بالموعظة الشعرية يتمثل بها في نفسه، ويبلغها سامعيه، ومن ذلك ما روي أن أصحابه دخلوا عليه يوماً فوجدوه يبكي وينشد (17):
دعُوه لا تلومُوه دعُوه فقد عَلِمَ الذّي لم تعلَمُوه
رأَى علم الهُدى فسَما إليه وطالبَ مطلباً لم تطلبُوه
أجابَ دُعاءَهُ لماَّ دعَاهُ وقامَ بأمرِه وأضَعتُموه
بنفسِي ذاكَ مِن فَطِن لبيبٍ تذَوَّقَ مَطْعمًا لم تَطعمُوه
ونحن لا نعرف قائل الأبيات، ونجدها تتضمن شيئاً من الرمز الشفيف، مع وضوح الألفاظ، وبساطة الصورة الخيالية (رأى علم الهدى فسما إليه) و (تذوق مطعماً لم تطعموه) التي رسمت صورة حركية في الصورة الأولى، ووضعت المعنوية موضع المحسوس في الثانية.
وربما أبدى إعجابه ببيت شعر، فقد روي أن رجلاً أنشده يوما (18):
وأجرأُ من رأيتُ بظهرِ غَيبٍ على عَيبِ الرِّجالِ ذُوو العُيوب
فقال الحسن، لله در هذا القائل! إنه لكما قال!، فهو استعمل أسلوب التعجب والتوكيد الإنكاري والإطناب في تثبيت المعنى.
وروي أنه كان يتمثل إذا أصبح وفرغ من تسبيحه ببيت الشعر (19):
وما الدُّنيا باقِية لحيٍّ ولا حيّ على الدُّنيا بباق ٍ
وإذا أمسى بكى وتمثل بيت الشعر:
يسرُّ الفَتى ما كانَ قدَّم من تُقى إذا عرفَ الدَّاء الذي هو قَاتلُه
وهذان البيتان مبنيان على الوضوح، لأنهما تعبران عن تجربة الحياة، واكتساب الحكمة منها، والشطر الأخير من البيت الثاني فيه تشبيه للذنوب المهلكة لصاحبها، والتقوى المنجية لها بالداء القاتل، والدواء الشافي من الداء.
صاحب الأسلوب المونق:
وقد عرف النقاد المنصفون من المعاصرين مكانة الحسن البصري وأهمية مواعظه وأثرها. يقول الدكتور شوقي ضيف (20): "وهو بلا ريب أكبر من ثبتوا في هذا العصر، ذلك الأسلوب المونق الذي تأثر به عبد الحميد (الكاتب) ومن خلفوه من الكتاب، إذ كان يقتدر على تصريف الكلم، مع السلامة من التكلف، والبراءة من التعقيد، وليس ذلك فحسب، بل أيضا مع تحلية لفظه بالمزاوجات والمقابلات والتشبيهات والاستعارات والتقسيمات الدقيقة" ونقل له نصوصاً عدة في كتابه لإظهار سمو أدب المواعظ.
من سمات أدب المواعظ:
وخص الدكتور عدنان النحوي كتاباً لهذا الفن سماه " أدب الوصايا والمواعظ .. منزلته ونهجه وخصائصه الإيمانية والفنية". وكان منطلق الكتاب بحثاً قدمه المؤلف في الندوة العلمية السنوية التي أقامتها رابطة الأدب الإسلامي العالمية عن "أدب الوصايا والمواعظ في الإسلام" سنة 1417هـ/ 1996م بمدينة حَيْدَر أباد في الهند برئاسة الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله. ولخص الدكتور عدنان النحوي في الفصل الخاص بالدراسة الفنية الموجزة لسمات أدب المواعظ أنقل منها بإيجاز ما يأتي (21):
1 - تأتي المواعظ مباشرة قوية لتقرير الحقائق للترغيب أو الترهيب.
2 - تأتي على صيغة السؤال والتعجب والدهشة والدعوة إلى التأمل والتفكير أو الأمر والنهي.
3 - تأتي على أسلوب القصة والخبر والحكمة لتبرز سنن الله في الحياة والكون.
4 - تأتي على أسلوب الحوار، وعلى أسلوب التكرار للتأكيد والتثبيت.
5 - تأتي على أسلوب ضرب الأمثال لتقديم الموعظة في صورة مؤثرة في النفس.
ولقد وجدنا هذه الأساليب ظاهرة في مواعظ الحسن البصري على قلة النصوص التي استشهدت بها مراعاة لعدم الإطالة، وفي هذا غنية لمن أراد الغناء، وابتعد عن المكابرة والمراء.
-----
الهوامش:
1 - كتاب الزهد، ص3، جمع وتحقيق د. محمد عبد الرحيم محمد، دار الحديث، القاهرة.
2 - ص20.
3 - ص21.
4 - ص21.
5 - ص30 - 31.
6 - ص49.
7 - ص50.
8 - ص63.
9 - ص30.
10 - ص40.
11 - ص75.
12 - ص163.
13 - ص167.
14 - ص166.
15 - ص168.
16 - ص169.
17 - ص61.
18 - ص54.
19 - ص22.
20 - العصر الإسلامي، د. شوقي ضيف، ص50، مكتبة المعارف، القاهرة.
21 - أدب الوصايا والمواعظ، د. عدنان النحوي، صـ269، نشر دار النحوي في الرياض، ط1، 1418هـ / 1998م.