فالعلماء هم سراج الأمة الذين يجاهدون أهل الأهواء، ويذبون عن الدين، ويحمون بيضته، ومن لم يتحصن بالعلم، وتصدى لدعوة الناس أتى بالعجائب، وثغر ثغرة في الإسلام، فأُتي من قبله.
ومن أجل ذلك فلا ينبغي أن يسلّم زمام الأمة للمتعالمين، الذين لم يكتسبوا علماً ولا أدباً، فيقودون الأمة إلى الهاوية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا".
وعلى طالب العلم أن يصحح نيته في طلبه للعلم، ويكون مخلصاً في ذلك لله وحده، لا يريد به شيئاً من الدنيا، أو طمعاً في تصدرٍ أو منصبٍ أو جاهٍ، وأن يكون هدفه نشر الدين، ونصرة سنة سيد المرسلين، ويفرح لذلك، سواء كان ذلك على يده أو على يد غيره، وهذا من علامات الإخلاص، وليحذر أن يطلب العلم الشرعي وهو يريد به حطاماً من حطام الدنيا الزائل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة"، يعني: ريحها.
وقيل للإمام أحمد: "ما ينوي طالب العلم؟، قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن الناس".
كما أن الواجب على طالب العلم أن يعرف أولويات الدعوة، فيبدأ بالأهم ثم المهم، ويتجنب ما لا يفيده، وليس من ضروريات دعوته، ولا ينشغل بالسفاسف التي لم يأت بها الشرع، بل هي من اختلاف أهل الأهواء، فينشغل عن الهدف الأسمى.
وأهم المهمات التي يجب على طالب العلم أن يبدأ بها ويقدمها على ما سواها، أن يدعوَ إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، لأن هذا هو سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فما بعث الله نبياً من أنبيائه إلا من أجل هذه الغاية، لعظم قدرها وأهمية تحقيقها، وما بُعث نبي إلى قومه إلا ونادى بهم: {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره}، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
وما سُلّ السيف، وفرض الجهاد، وسالت الدماء، وقام سوق الجنة والنار، إلا من أجل تحقيق هذه الغاية.
وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى التوحيد وإفراد الله بالعبادة، وينادي بهم في كل اجتماع: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
فإذا عرف طالب الحق هذا المطلب، نجح وأفلح، وسلك الطريق التي لا يضل سالكها ولا يزيغ.
على أنه لا بد أن يُبيَّن للناس ـ ولاسيما في هذه العصور لانتشار الجهل ـ حقيقة التوحيد وماهيته، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، بأن معناها أنه لا معبود بحق إلا الله، فلا تُصرف عبادة إلا له سبحانه، ومن صرف نوعاً من أنواع العبادة، من خوف أو رجاء، أو توكل، أو رغبة، أو رهبة، أو ذبح، أو نذر ونحو ذلك، لغير الله فقد أشرك بالله واستحق الخلود في النار، قال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}، فلا بد من بيان هذا الهدف أتم بيان وأوضحه، خصوصاً وأن كثيراً من دعاة الضلالة بدأوا يفسرون شهادة التوحيد بغير معناها المراد، فحرفوا الناس عن جادة الحق وسبيل الهدى.
وعلى طالب العلم أن يتأدب بأدب الإسلام الذي أرشدت إليه نصوص الكتاب والسنة، وأن يتذوق محاسن الأخلاق التي تكون مفتاحاً إلى قلوب الخلق ووسيلة لاجتذابهم إلى المنهج الحق، لا سيما في وقت نفر كثير من الناس من الالتزام بسبب الشبهات المضلة والشهوات المردية، التي تدعوهم في كل حين (هلم إليّ).
ومن نظر في سيرة المصطفى والنبي المجتبى رأى في ذلك أعظم دليل، فقد كان معروفاً بالصدق ومكارم الأخلاق قبل أن يُبعث، ولذلك لما بُعث لم يطعنوا في أخلاقه وسجاياه، بل سرعان ما فتح الله له قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً.
ولذلك لما جاءه الملك بالوحي وضمّه وقال له اقرأ رجع إلى خديجة وهو خائف، وقال لها: "زملوني .. زملوني"، فدثروه حتى ذهب منه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر، "لقد خشيت على نفسي". فقالت: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق".
فوصفته رضي الله عنها بمكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم.
وكان يسميه أهل الجاهلية الصادق الأمين، ولما جمعهم للدعوة، قالوا: ما جربنا عليك الكذب، (ومن ردّ دعوته فلم يردّها لأجل طعن في أخلاقه، بل عتوا واستكباراً).
¥