وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما من يُصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.
وقد خرج الطبراني وغيره بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا واضطُهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا ولا أنصارا».
فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه سيكون في آخر الزمان عند فساده مقهورا ذليلا لا يجد أعوانا ولا أنصارا.
وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال: «وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أذل من النقد». والنقد: هم الغنم الصغار.
وفي " مسند الإمام أحمد " عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجلٍ من أصحابه: يُوشك إن طالت بك الحياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزل عند منازله لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت.
ومثله قول ابن مسعود: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة.
وإنما ذل المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم ومباينته لما هم عليه.
ولما مات داود الطائي قال ابن السماك: إن داود نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأعشى بقلبه بصر العيون فكأنه لم ينظر إلى ما أنتم إليه تنظرون وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب، استوحش منكم، إنه كان حيًّا وسط موتى.
ومنهم من كان يكرهه أهله وولده لاستنكار حاله، سمع عمر بن عبد العزيز امرأته مرة تقول: أراحنا الله منك. قال: آمين.
وقد كان السلف قديما يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم.
ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي - وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني - يقول: إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام غريبا كما بدأ، وعاد وصفُ الحق فيه غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا، يُحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته مخدوعا صريعا غدره إبليس، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها؟ وسائر ذلك من الرعاع، همج عوج وذئاب مختلسة، وسباع ضارية وثعالب ضوار، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة. خرجه أبو نعيم في " الحلية ".
فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله؟
وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد».
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلا من الصدر الأول بُعِثَ اليوم ما عرف من الإسلام شيئا إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لئن عاش إلى المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله عز وجل وقلبه يحن إلى السلف الصالح فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبيلهم كان له أجر عظيم.
¥