فَلَا وَجْهَ لِلتَّوَقُّفِ، وَالْعَجَبُ مِنِ اخْتِيَارِ مِثْلِ الْغَزَالِيِّ وَالرَّازِيِّ لَهُ.
مسألة: الجزء الأول التحليل الموضوعيالبحث الرابع: في أفعاله صلى الله عليه وسلم
اعلم أن أفعاله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى سبعة أقسام:
الأول: ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية، كتصرف الأعضاء وحركات الجسد، فهذا القسم لا يتعلق به أمر باتباع، ولا نهي عن مخالفة، وليس فيه أسوة، ولكنه يفيد أن مثل ذلك مباح.
[ص: 139] القسم الثاني: ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلة، كالقيام والقعود ونحوهما، فليس فيه تأس، ولا به اقتداء، ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور.
ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم أنه مندوب، وكذا حكاه الغزالي في المنخول، وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا ويقتدي به، كما هو معروف عنه منقول في كتب السنة المطهرة.
القسم الثالث: ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع بمواظبته عليه على وجه معروف وهيئة مخصوصة، كالأكل والشرب واللبس والنوم، فهذا القسم دون ما ظهر فيه أمر القربة، وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة، على فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل، وأما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى بعض الهيئات، كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب واللبس والنوم، فهذا خارج عن هذا القسم داخل فيما سيأتي.
وفي هذا القسم قولان للشافعي ومن معه، هل يرجع فيه إلى الأصل، وهو عدم التشريع، أو إلى الظاهر، وهو التشريع، والراجح الثاني. وقد حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أكثر المحدثين فيكون مندوبا.
القسم الرابع: ما علم اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كالوصال والزيادة على أربع، فهو خاص به لا يشاركه فيه غيره، وتوقف إمام الحرمين في أنه هل يمنع التأسي به أم لا؟ وقال: ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به صلى الله عليه وآله وسلم في هذا النوع، ولم يتحقق عندنا ما يقتضي ذلك، فهذا محل التوقف.
وفرق الشيخ أبو شامة المقدسي في كتابه في الأفعال بين المباح والواجب، فقال: ليس لأحد الاقتداء به فيما هو مباح له كالزيادة على الأربع ويستحب الاقتداء به في [ص: 140] الواجب عليه كالضحى والوتر، وكذا فيما هو محرم عليه كأكل ذي الرائحة الكريهة، وطلاق من تكره صحبته.
والحق أنه لا يقتدى به فيما صرح لنا بأنه خاص به كائنا ما كان إلا بشرع يخصنا، فإذا قال مثلا: هذا واجب علي مندوب لكم. كان فعلنا لذلك الفعل لكونه أرشدنا إلى كونه مندوبا لنا، لا لكونه واجبا عليه، وإن قال: هذا مباح لي أو حلال لي، ولم يزد على ذلك، لم يكن لنا أن نقول: هو مباح لنا، أو حلال لنا، وذلك كالوصال فليس لنا أن نواصل.
هذا على فرض عدم ورود ما يدل على كراهة الوصال لنا، أما لو ورد ما يدل على ذلك، كما ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم واصل أياما تنكيلا لمن لم ينته عن الوصال، فهذا لا يجوز لنا فعله بهذا الدليل الذي ورد عنه، ولا يعتبر باقتداء من اقتدى به فيه كابن الزبير، وأما لو قال: هذا حرام علي وحدي، ولم يقل: حلال لكم، فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء، أما لو قال: حرام علي، حلال لكم، فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء، فليس في ترك الحلال ورع.
القسم الخامس: ما أبهمه صلى الله عليه وآله وسلم ; لانتظار الوحي كعدم تعيين نوع الحج مثلا، فقيل: يقتدى به في ذلك، وقيل: لا.
قال إمام الحرمين في النهاية: وهذا عندي هفوة ظاهرة، فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمول على انتظار الوحي قطعا، فلا مساغ للاقتداء به من هذه الجهة.
القسم السادس: ما يفعله مع غيره عقوبة له كالتصرف في أملاك غيره عقوبة له، فاختلفوا هل يقتدى به فيه أم لا؟ فقيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب، وهذا هو الحق، فإن وضح لنا السبب الذي فعله لأجله كان لنا أن نفعل مثل فعله عند وجود مثل ذلك السبب، وإن لم يظهر السبب لم يجز، وأما إذا فعله بين شخصين متداعيين، فهو جار مجرى القضاء، فتعين علينا القضاء بما قضى به.
¥