وما ورد من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" ([2])، فالنهي عن المبالغة التي فيها كمال السنة عند الصوم دليل على أن دخول الماء في حلقه مفسدٌ لصومه ([3])، وإلا لما كان للنهي معنى مع أمره بها في غير الصوم، فكذلك كل ما يدخل الجوف من الأجرام اختيارًا يفسد الصوم؛ لأن المعنى في الجميع وصوله إلى الجوف واستقراره فيه مع إمكان الامتناع منه في العادة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " إنما الفطر مما دخل وليس مما خرج" ([4]).
كما أن معنى الصوم هو الإمساك، ولا يتحقق الإمساك بدخول شيء ذي جِرم إلى الجوف، وإلا كان ركن الصيام منعدمًا، وأداء العبادة بدون ركنها لا يتصور.
والخارج من البخاخ رذاذ له جرم مؤثر، وليس صحيحاً أنه مجرد هواء، وإلا لم يكن علاجاً؛ فإن الهواء المجرد يتنفسه المريض وغيره.
ويتأيد هذا بما قرره المصنفون من المذاهب الأربعة المتبعة، من ذلك: ما جاء في بدائع الصنائع من كتب الحنفية من قوله: "وما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ عن المخارق الأصلية كالأنف والأذن والدبر بأن استعط أو احتقن أو أقطر في أذنه فوصل إلى أذنه أو إلى الدماغ فسد صومه" ([5]).
وقال ابن نجيم: "والمراد بترك الأكل ترك إدخال شيء بطنه أعم من كونه مأكولا أو لا" ([6]).
وجاء في شرح الخرشي لمختصر خليل في فقه المالكية: "وصحته -أي الصوم- بترك إيصال متحلل وهو كل ما ينماع من منفذ عال أو سافل غير ما بين الأسنان، أو غير متحلل كدرهم من منفذ عال" ([7]).
وفي متن المنهاج من كتب الشافعية: "شرط الصوم الإمساك .. عن وصول العين إلى ما يسمى جوفًا" ([8]).
قال الرافعي: "وضبط الأصحاب الداخل المفطر بالعين الواصلة من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح مع ذكر الصوم" ([9]).
وقال البهوتي الحنبلي في شرح المنتهى: " أو أدخل إلى جوفه شيئًا من كل محل ينفذ إلى معدته مطلقًا، أي: سواء ينماع ويغذي أو لا، كحصاة وقطعة حديد ورصاص ونحوهما، ولو طرف سكين من فعله أو فعل غيره بإذنه فسد صومه" ([10]).
وذهب بعض العلماء المعاصرين أن استعمال الصائم بخاخ الربو لا يعتبر مفطرًا، وبَرّروا ذلك بأمور، منها:
الأول: أن ما يحصل من بخاخ الربو لا يعتبر أكلا أو شربًا في العادة، فلا يحصل به الفطر.
ويناقش ذلك بأنه وإن كان لا يعتبر أكلا أو شربًا في العادة فإن ذلك لا يخرجه عن جملة المفطرات، فالعبرة بدخول الجرم للجوف اختيارًا؛ لدلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم بما يشمل محل النزاع.
وحقيقة الصيام هي الإمساك، وتحقق الإمساك إنما يكون بمنع دخول ذي جرم إلى الجوف.
وقد قرر العلماء أنه لا فرق بين ما يعده العرف أكلا أو شربًا وبين ما لا يعده كذلك، وحكاه النووي في المجموع وابن قدامة في المغني عن عامة أهل العلم وجماهيرهم من السلف والخلف ([11])، ولا فرق بين الجامد والمائع في هذا الباب.
الثاني: أن دخول شيء إلى المعدة من بخاخ الربو ليس قطعيًا فقد يدخل وقد لا يدخل، والأصل صحة الصوم، ولا يزول هذا اليقين بالشك.
ويُرَدُّ على هذا بأنه قد ثبت من الناحية الطبية أن الذي يصل إلى المعدة من الدواء يقارب الثمانين بالمائة والباقي يذهب إلى الجهاز التنفسي، فلم يصر وصول الدواء للمعدة مشكوكًا فيه، وكان المزيل لليقين يقينٌ مثله.
الثالث: بخاخ الربو يدخل مع مخرج النفس، لا مخرج الطعام والشراب.
ويُرَدُّ بأن هذا الفرق بين المخرجين غير مؤثر؛ فالعبرة بالوصول إلى ما يسمى جوفًا دون التفات إلى المخرج.
الرابع: قياس الواصل إلى الجوف من بخاخ الربو على المتبقي من المضمضة والاستنشاق.
وهذا قياس مع الفارق؛ لأن المحل الذي يقصد به الجناية على الصوم إنما هو الحلق، وهو ليس مقصود المضمضة، بل مقصودها هو الفم، بخلافه في بخاخ الربو فإن الجوف مقصود له.
فصار سريان أثر المضمضة إلى الحلق من باب الخطأ الذي هو من عوارض الأهلية؛ فتمام قصد الفعل بقصد محله، وفي الخطأ يوجد قصد الفعل دون قصد المحل.
قال ابن الهمام - مُعَرفًا الخطأ -: "هو أن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية" اهـ ([12]).
وقال صدر الشريعة: "هو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدًا تامًا" اهـ ([13]).
¥