وكثير من المولدة المتعصبين إذا رأوا حديثا يخالف مذهبهم يتلقونه بالتأويل, وحمله على خلاف ظاهره ما وجدوا إليه سبيلا, فإذا جاءهم من ذلك ما يغلبهم فزعوا إلى دعوى الإجماع على خلافه, فإن رأوا من الخلاف ما لا يمكنهم من دعوى الإجماع, فزعوا إلى القول بأنه منسوخ! وليست هذه طريق أئمة الإسلام, بل أئمة الإسلام كلهم على خلاف هذا الطريق, وأنهم إذا وجدوا لرسول الله سنة صحيحة صريحة لم يبطلوها بتأويل, ولا دعوى إجماع, ولانسخ. والشافعي وأحمد من أعظم الناس إنكارا لذلك. وبالله التوفيق.
وإنما لم يفعل النبي ما هَمَّ به للمانع الذي أخبر أنه منعه منه, وهو: اشتمال البيوت على من لا تجب عليه الجماعة من النساء والذرية, فلو أحرقها عليهم لتعدت العقوبة إلى من لا يجب عليه, وهذا لا يجوز. كما إذا وجب الحد على حامل؛ فإنه لا يقام عليها حتى تضع؛ لئلا تسري العقوبة إلى الحمل, ورسول الله لا يَهُمُّ بما لا يجوز فعله أبدا.
وقد أجاب عنه بعض اهل العلم بجواب آخر, وهو: أن القوم كانوا أخوف لرسول الله من أن يسمعوه يقول هذه المقالة, ثم يُصِرُّون على التخلف عن الجماعة!
وأما قولكم: (إن الحديث يدل على عدم وجوب الجماعة؛ لكونه هم بتركها) , فمما لا يُلتفت إليه, ولا يُظن برسول الله أنه يَهُمُّ بعقوبة طائفة من المسلمين بالنار, وإحراق بيوتهم لتركهم سنة لم يوجبها الله عليهم, ولا رسوله, وهو لم يخبر أنه كان يصلي وحده, بل كان يصلي جماعة هو وأعوانه الذين ذهبوا معه إلى تلك البيوت.
وأيضاً: فلو صلاها وحده؛ لكان هناك واجبان: واجب الجماعة, وواجب عقوبة العصاة وجهادهم, فترك أدنى الواجبين لأعلاهما, كالحال في صلاة الخوف!
قولكم: (إنما هم بعقوبتهم على نفاقهم لا على تخلفهم عن الجماعة) , فهذا يستلزم محظورين:
1. إلغاء ما اعتبره رسول الله, وعلق الحكم به من التخلف عن الجماعة.
2. والثاني: اعتبار ما ألغاه؛ فإنه لم يكن يعاقب المنافقين على نفاقهم, بل كان يقبل منهم علانيتهم, ويَكِلُ سرائرهم إلى الله.
الدليل الخامس: ما رواه مسلم في صحيحه, [رقم:653]: أن رجلا أعمى, قال: يا رسول الله, ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسولَ الله أن يرخص له, فرخص له, فلمّا ولى دعاه, فقال: «هل تسمع النداء؟» , قال: نعم. قال: «فأجب». وهذا الرجل هو ابن أم مكتوم, واختلف في اسمه, فقيل: عبد الله, وقيل: عمرو.
وفي مسند الإمام أحمد [3/ 423] , وسنن أبي داود [رقم:552, 553]: عن عمرو ابن أم مكتوم, قال: قلت: يا رسول الله, أنا ضرير شاسع الدار, ولي قائد لا يلائمني, فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: «تسمع النداء» , قال: نعم. قال: «ما أجد لك رخصة».
قال المسقطون لوجوبها: هذا أمر استحباب, لا أمر إيجاب. وقوله: (لا أجد لك رخصة) , أي: إن أردت فضيلة الجماعة. قالوا: وهذا منسوخ.
قال الموجبون: الأمر مطلق للوجوب, فكيف إذا صرح صاحب الشرع بأنه لا رخصة للعبد في التخلف عنه لضرير شاسع الدار لا يلائمه قائده, فلو كان العبد مخيرا بين أن يصلي وحده أو جماعة لكان أولى الناس بهذا التخيير مثل الأعمى.
قال أبو بكر ابن المنذر [في كتاب "الأوسط", 6/ 70]: «ذكر [إيجاب] حضور الجماعة على العميان, وإن بعدت منازلهم عن المسجد, ويدل ذلك على: أن شهود الجماعة فرض لا ندب» , «وإذا قال لابن أم مكتوم, وهو ضرير: «لا أجد لك رخصة» , فالبصير أولى أن لا تكون له رخصة» ..
ـ[أبوالليث الشيراني]ــــــــ[21 - 06 - 10, 02:32 ص]ـ
الدليل السادس: ما رواه أبو داود [رقم:551] , وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه [رقم:2064] , عن ابن عباس, قال: قال رسول الله: «من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر» , قالوا: وما العذر؟ قال: «خوف أو مرض=لم تقبل منه الصلاة التي صلاها».
قال المسقطون للوجوب: هذا حديث فيه علتان:
إحداهما: أنه من رواية معارك العبدي, وهو ضعيف عندهم.
الثانية: إنما يُعرف عن ابن عباس, موقوفا عليه!.
¥