كما ينبغي التنبيه إلي أن الخلاف واقع فيما إذا سلم الغناء من الكلام الفاحش والمحرم، كوصف الخمور والنساء، والدعوة إلي المعصية، أو اقترن به محرم كشرب الخمر أوترك واجب لعموم قوله سبحانه: [وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] [النحل: من الآية90]، وعلى هذا النوع – أعني الغناء المشتمل على الكلام الفاحش والمحرم، كوصف الخمور والنساء، والدعوة إلي المعصية، أو اقترن به محرم كشرب الخمر أوترك واجب – يحمل قوله سبحانه: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] [لقمان: 6] إذا حملت اللام في قوله سبحانه وتعالى: [ليضل] على أنها لام التعليل، كما سيأتي إن شاء الله.
وقبل الشروع في بيان المسألة لابد من تحرير محل النزاع فيها.
تحرير محل النزاع في مسألة الغناء الخالي من المعازف [الآلات الموسيقية]:
الغناء مطلقاً ينقسم إلي قسمين:
الأول: ما جرت عادة الناس باستعماله عند محاولتهم أعمالهم، وحملهم أثقالهم كحداء الأعراب بإبلهم، وغناء النساء لتسكين صغارهن، ولعب الجواري بلعبهن وما شاكل ذلك. قال القرطبي: فهذا النحو إذا سلم المغني به من ذكر الفواحش والمحرمات كوصف الخمور والقينات فلا شك في جوازه، ولا يختلف فيه.ا. هـ[كشف القناع ص 48].
وقد نقل ابن عبد البر – رحمه الله – أيضاً الإجماع على إباحة الحداء – كما في فتح الباري 10/ 554 –.
ويدل لهذا النوع من السنة ما رواه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع أن عامر بن الأكوع كان يحدو بالقوم فقال الرسول صلي الله عليه وسلم: من هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع، قال: يرحمه الله.
القسم الثاني: غناء ينتحله المغنون العارفون بصنعة الغناء، الملحنون له بالتلحينات الأنيقة المقطعون له على النغمات الرقيقة التي تهيج النفوس، وتطربها.
قال القرطبي: فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال ثلاثة. [كشف القناع 49/ 50] وقال ابن تيمية: المعازف هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً… ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام؟ أو مكروه؟ أو مباح؟.ا. هـ[الفتاوى 11/ 576]
والصحيح – والله أعلم – أن ما كان هذه صفته فحرام لا يجوز تعاطيه ولا استعماله وهذا ظاهر كلام ابن تيمية في الاستقامة، ويدل لذلك مايلي: ـ
1 - قوله سبحانه: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] [لقمان: 6] قال ابن عباس وابن مسعود: هو الغناء، هذا على قراءة فتح الياء في قوله: [ليَضل] فتكون اللام لام العاقبة، كما قال الواحدي، وابن الجوزي وابن كثير في تفاسيرهم.
قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب. [أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي في السنن وصححه ابن القيم وابن رجب والألباني]
2 - ما رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي، من حديث أم علقمة مولاة عائشة أن بنات أخي عائشة خفضن، فألِمن لذلك، فقيل لعائشة يا أم المؤمنين ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى، قالت: فأرسلت إلى فلان المغني، فأتاهم. فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت، فرأته يتغنى ويحرك رأسه طرباً، وكان ذا شعر كثير فقالت عائشة رضي الله عنها: " إنه شيطان، أخرجوه، أخرجوه " فأخرجوه. [صححه ابن رجب والألباني]
3 - ما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة – في الجاريتين اللتين كانتا عندها يوم العيد – قالت: "دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان وليسا بمغنيتين". فنفت عنهما احتراف الغناء وانتحاله.
4 - قال القرطبي: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهية الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري. [تلبيس إبليس ص 283]
قال ابن عبد البر – رحمه الله –: الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلباً للطرب وخروجاَ من مذهب العرب، وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم. [فتح الباري 10/ 559]
¥