تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وتمر الأيام والليالي، فلا يبقى من هذا كله في أذهان الناس إلا أن خلافا فقهيا جديدا قد استحدث بعد أن لم يكن، وأن ما لم يكن يخطر ببال العوام إمكانُه في الشرع الحنيف قد صار الآن عندهم من مسائل الخلاف، التي تتنوع فيها الأنظار ما بين متشدد ومتساهل.

وقد يداعبك بعض هؤلاء العوام - حين يأتي ذكر المسألة - بابتسامة ماكرة ويقول: (والخلاف رحمة!).

...

وقد تأملت في السبب الذي يهوّن لبعض هؤلاء المفتين، إخراج مثل هذه الفتاوى العجيبة، فتبين لي أن الأسباب كثيرة جدا، ومتنوعةٌ تنوعَ المؤهلات العلمية، والمكونات الفكرية، والأحوال النفسية، لهؤلاء المتصدرين.

ولكنني ارتأيتُ أن أذكر بعض ما تيسر، وللقارئ أن يزيد من ذلك ما يظهر له.

فمن أهم الأسباب:

1 - ضعف الملَكة الأصولية، بل قلة الاطلاع على كتب أصول الفقه، وندرة الممارسة لقواعده.

ومن المعلوم أن علم أصول الفقه هو الأساس الذي يبتنى عليه علم معرفة الحلال والحرام. والذي يتصدى للفتوى والبحث الفقهي، وهو عريّ من هذا العلم، كالذي يخرج إلى ميدان الوغى بغير سلاح، يوشك أن يولي على عقبيه، مهزوما لا يلوي على شيء. أو هو كالذي يبني العمارة المأهولة الشاهقة، على أساس مائي غير متماسك، يوشك بناؤه أن يخرّ بمن فيه، فيصير أثرا بعد عين.

وقد ذكر جماعة من الأصوليين أن الفقيه الحافظ للأقوال والمذاهب لا يعتد بقوله إلا إن كان مجتهدا، بخلاف الأصولي المتمكن من فنه، فإنه يعتبر خلافه وإن كان غير حافظ للأحكام.

والحق أن هذا الضعف الأصولي لا يظهر عند هذا المفتي المسكين، ما دام منضبطا في إطار مذهب فقهي معين، أو ملتزما بما عليه جمهور الفقهاء، أو متقيدا بالمشهور العلمي في مجتمعه، وهو الذي عليه كبار شيوخ ذلك المجتمع. وذلك لأنه في هذه الحالة، لا يتجاوز نقل ما حفظه، وبث ما سمعه.

ولكنه إذا تكلف عناء البحث المستقل، وكابد مشقة الاجتهاد، لم يلبث أن يقع على أم رأسه، ويخبط خبط العشواء في الظلماء. فتراه يستدل بما لا يصلح أن يكون دليلا إلا عند جماعة المجانين والمبرسمين، ويستنبط بفهمه السقيم من النص ما لا يدل عليه من قريب ولا بعيد، ويرد أفهام العلماء الربانيين، التي صقلها علم أصول الفقه، وهذبها إدمان النظر في استنباطات الفقهاء والأصوليين؛ بفهمه الذي لا رسن له، يكبحه عن الجماح في أودية الباطل.

...

2 - ومن الأسباب أيضا أن بعض هؤلاء تلقف بعض القواعد الأصولية العامة، فجعلها شعارا له في بحثه، وإن لم يتقن مصادرها ومواردها، ولم يعرف قيودها وضوابطها.

فهو يعمد إلى القاعدة الصحيحة، فيظلمها باستعمالها في غير محلها.

وأكثر هذه القواعد ظلما: قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة، وقاعدة المصالح والمفاسد.

والكلام في بيان الإعمال الصحيح لهاتين القاعدتين، يطول جدا، ولا يحتمله هذا المقال المختصر. ولكن يكفيني هنا أن أقول: إنهما – على ما لهما من شأن عظيم، ومنزلة خطيرة – لا يمكن الاستغناء بهما عن سائر القواعد الأصولية. بل لا يكون إعمالهما إلا للمتبحر في الفقه وأصوله، الذي بلغ فيهما درجة عالية، هي درجة الاجتهاد أو ما يقرب منها.

ولا ينقضي عجبي حين أرى بعض العوام أو الطلبة يتكلمون في المقاصد الشرعية، ويستشهدون ببعض كلام الإمام الشاطبي، وهم لمّا يدرسوا بعد ورقات إمام الحرمين في أصول الفقه، فضلا عما فوقه من المتون والكتب الجامعة في هذا الفن!

وهذا السبب يلتقي – عند التحقيق - بالسبب الأول، لأن سوء استعمال القاعدتين من ضعف الملكة الأصولية عموما.

...

3 - ومن الأسباب أيضا حب الظهور بمظهر المعتدل أمام عوام الناس لجذبهم إلى الالتزام بالشريعة.

وقد يكون هذا المقصد صحيحا في نفسه، ولكنه لا يبيح بحال تمييع الدين، وتحريف أحكام الشرع.

ولأجل هذا المقصد حلق جمع من الدعاة لحاهم، وظهروا بالملابس الشبابية الخفيفة، وخلطوا في مجالسهم بين النساء والرجال!

ولأجله غيّر جمع من الوعاظ أساليب خطابهم الدعوي، حتى ما عاد عندهم شيء هو حرام أو لا يجوز، وإنما: فيه خلاف .. والأفضل أن .. وليتك تفعل .. !

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير