تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الوقفة الأولى: لا يخفى أن من الصفات المرذولة: لَبس الحق بالباطل (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)، وأحسن أحوال الواقع فيه أن يكون جاهلا، وما أحراه حينئذ أن يكف مداده ويكسر قلمه لئلا يؤذي عباد الله.

والتلبيس الحاصل ههنا من الشيخ عادل -آتاه الله رشده- هو في تحديد ماهية الغناء الذي صرخ بأعلى صوته مناديا بحله.

إن أي منصف رام الخوض في هذه المسألة يلزمه أن يحرر ما يأتي:

ما حقيقة الغناء في لغة العرب ولسان السابقين؟

ولمَ قال بعضهم بحله وبعضهم بكراهته؟

وهل يصح تنزيل قول المبيحين منهم للغناء على الغناء المعاصر؟

وهل من أباحه منهم -على المعنى الذي قصدوه- أباحه مع المعازف أم مجردا عنها؟

وهل ما ورد من إباحة (الدف) كان عاما أو مخصوصا بأحوال معينة؟

وهل إباحة الدف يلزم منها إباحة سائر أنواع المعازف؟

أما الشيخ عادل فقد جعل الغناء بمعناه المعاصر داخلا في اصطلاح السلف، وأوهم أن من أباحه منهم أباحه مع المعازف، وجعل إباحة الدف عامة، وألحق آلات المعازف جميعا بهذا الحكم .. وقد جانب الصواب في كل هذا!

وسأوضح المقام بعون الله فيما يأتي:

أولا: إن الغناء في لغة العرب وفي عرف علمائنا السابقين لم يكن إلا رفع الصوت بكلام ملحن خالٍ عن المعازف وآلات الطرب. قال ابن حجر في فتح الباري (10/ 543): (الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة وألحان موزونة). وعرفه المناوي في فيض القدير (6/ 320) بأنه: (رفع الصوت بنحو شعر أو رجز [وفي الأصل: زجر] على نحو مخصوص).

وقد يُطلَق على مجرد رفع الصوت وموالاته، قال الخطابي في غريب الحديث (1/ 656): (فكل من رفع صوته بشيء ووالى به مرة بعد أخرى فصوته عند العرب غناء)، ونحوه في النهاية لابن الأثير.

ومن أباح الغناء من أهل العلم السابقين فمراده الترنم بكلام مباح، ومن كرهه أو منع منه فمراده الإكثار منه، أو الترنم بما اشتمل على باطل.

قال الإمام أحمد: (الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب: أتيناكم أتيناكم) (نقله ابن رجب في فتح الباري 6/ 83).

وقال ابن حبان في صحيحه (13/ 187): (ذكر البيان بأن الغناء الذي وصفناه إنما كان ذلك أشعارا قيلت في أيام الجاهلية فكانوا ينشدونها ويذكرون تلك الأيام، دون الغناء الذي يكون بغزل يقرب سخط الله جل وعلا من قائله). وقال في (13/ 189): (ذكر البيان بأن الغناء الذي كان الأنصار يغنون به لم يكن بغزل لا يحل ذكره).

وقال الطبري عن نشيد الأعراب في السفر: (وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذى غُنّي به في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَنْهَ عنه، وهو الذي كان السلف يجيزون ويسمعون) (نقله ابن بطال في شرح البخاري 4/ 560).

وقال ابن عبد البر في التمهيد (22/ 197) بعد أن تكلم عن غناء الركبان والحداء: (هذه الأوجه من الغناء لا خلاف في جوازها بين العلماء ... وقد حدا به صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن رواحة وعامر بن سنان وجماعة؛ فهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء؛ إذا كان الشعر سالما من الفحش والخنى، وأما الغناء الذي كرهه العلماء فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء وإفساد وزن الشعر والتمطيط به طلبا للهو والطرب، وخروجا عن مذاهب العرب، والدليل على صحة ما ذكرنا أن الذين أجازوا ما وصفنا من النصب والحداء هم كرهوا هذا النوع من الغناء، وليس منهم يأتي شيئا وهو ينهى عنه).

وقال ابن الأثير (3/ 392): (وفي حديث عائشة (وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث) أي تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بُعاث -وهو حرب كانت بين الأنصار- ولم ترد الغناء المعروف بين أهل اللهو واللعب، وقد رخص عمر في غناء الأعراب وهو صوت كالحُداء).

وقال أبو العباس القرطبي في المفهم (2/ 534) تعليقا على قول عائشة رضي الله عنها في الحديث السابق: (وليستا بمغنيتين): (أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرّز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يُحرِّك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون الذي يحرِّك الساكن ويبعث الكامن. وهذا النوع إذا كان في شعرٍ يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات: لا يُختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو واللعب المذموم بالاتفاق، فأما ما يسلم من تلك المحرمات فيجوز القليل منه، وفي أوقات

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير